عظمة التعدد والاختيار

ت + ت - الحجم الطبيعي

دوستويفسكي، الأديب الروسي الأشهر، ليس مجرد كاتب روايات عظيم، ولا مفكر عميق، مر بالكثير من التجارب، وصقلته الحياة حتى غدا فيلسوفاً حقيقياً، إنه أحد أكثر الكتاب، الذين اختصوا بتشريح النفس البشرية، والغوص في دواخل الإنسان وتفكيكه، لذلك فرواياته نماذج تدرس في كيفية تعامل الروائي مع شخصياته وأبطاله، كيف يختارهم، ويحدد ملامحهم وصفاتهم وسلوكياتهم وعقدهم، ودواخل نفوسهم وصراعاتهم، التي يعيشونها مع أنفسهم ومع محيطهم، ومن ثم الطريقة الفذة، التي يرسم بها مصائرهم ونهاياتهم.

أما جلال الدين الرومي، والذي يطلق عليه مريدوه مولانا جلال الدين، فعالم من علماء الدين، كان قاضياً ومعلماً، وكان يؤم الناس، ويجلس للتدريس، حتى التقى بالقطب الصوفي المعروف شمس الدين التبريزي، فسارت حياته في مسار آخر، حفر بمعية التبريزي طريقاً في التصوف والعشق الإلهي، ووضعا معاً قواعد للسائرين في هذا الدرب العسير، وهو صاحب الطريقة المولوية في الذكر والإنشاد، والرقص الصوفي، الذي تشتهر به مدن كثيرة، لعل أشهرها مدينة قونية التركية، حيث ضريح الرومي الذي استقر فيها، بعد أن قدم من مدينته بلخ.

ما الذي يجمع بين الرجلين: الحكمة والمعرفة، لكنهما يختلفان تماماً في الخيارات، فالحكمة نهر هادر يصب في مصب الحياة الواسع، لكنه يصنع أنهراً ومسارات وتفرعات كثيرة، وهو يشق الطريق للمصب، وذلك لا يعيب النهر أبداً طالما ارتوى من يقف على الضفاف أو من ينتظر عند المصبات، فكل الأنهر خير، وكل الأنهر أسست حضارات، وأقامت دولاً، ومن هذه الحضارات والدول بزغت أسماء عظيمة لعلماء وفلاسفة ومفكرين.

يقول دوستويفسكي: لا يمكنك أن تُشفى في نفس البيئة التي جعلتك مريضاً، لذلك غادرها، والتمس هواء آخر يشفيك.

أما جلال الدين الرومي فيقول: إن «هروبك مما يؤلمك سيؤلمك أكثر، فلا تهرب، تألم حتى تشفى»، أي اِبقَ في البيئة نفسها، وفيها ستلتئم جراحك وتشفى.

هذه هي عظمة الاختلاف، واختلاف الحضارات، وتعدد أوجه الحكمة.

Email