المعضلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تنسب للأديب والمسرحي الإغريقي العظيم سوفوكليس مقولة نافذة وفي غاية الدقة والأهمية خلاصتها أنه «لا يدخل شيء ضخم حياة البشر من دون لعنة»، وأبرز مثال يمكن أن نستحضره لتطبيق هذه المقولة هي مواقع التواصل الاجتماعي التي غيّرت حياة ملايين البشر بشكل لا رجعة فيه، وعندما نتحدث عن التغيير فعلينا أن لا ننسى الأمور الإيجابية التي أحدثتها هذه التقنية، على الرغم من أن الآثار الكارثية لا يمكن الدفاع عنها مطلقاً ولا حتى تبنيها، إنها تلك اللعنة التي دخلت متسللة كطفل دخل خلسة إلى حفل هائل وهو يتوارى خلف والدته يكاد لا يرى!

في مشهد يتكرر تنادي الأم على ابنتها كي تحضر لها شيئاً عاجلاً، كأس ماء، تفتح الباب الذي يقرع منذ خمس دقائق، تطفئ الموقد في المطبخ... بينما الفتاة لا تسمع أي شيء تقوله أو تطلبه منها والدتها، إنها في عالم «فيسبوك» أو «تيك توك» أو «واتس أب»، غائبة عن كل ما حولها.

مشهد يتكرر وكلنا أبطاله: نتفق على الخروج إلى المقهى لتناول فنجان قهوة أو إلى المطعم لتناول العشاء، كلنا متحمسون ومرحبون تماماً، نكرر لقد اشتقنا لجلساتنا فعلاً، وما أن نصل إلى المكان المقصود، ويتخذ كل واحد منا مقعده ناظراً للآخرين بعيون مليئة بالبهجة الحقيقية ومرحباً بصدق، حتى تحين تلك اللحظة الفاصلة التي تفصل كل منا عن الآخرين وعن المحيط وعن العالم الحقيقي الذي كنا فيه: لحظة استخراج الهاتف المحمول أو الصندوق الأسود على حد وصف أبطال الفيلم الجدلي (أصحاب.. ولا أعز!)، لحظتها تبرز واحدة من تجليات اللعنة التي تحدث عنها سوفوكليس.

النصب والاحتيال، العلاقات الوهمية، العوالم الافتراضية الموازية، الانسلاخ من الواقع تماماً، العزلة، قبول الوحدة بل والسعي الحثيث لها باعتبار أنّ هناك تعويضاً مباشراً موجوداً في مواقع التواصل، التوحد، والاكتئاب، ما أن يحدث تشويش ما في تلك المواقع، أن تتهاوى جماهيرية الشخص أو يقل عدد معجبيه ومتابعيه… فيلجأ أحياناً لما لا يمكن تخيله ليظل في دائرة الاهتمام والضوء.

Email