البيت

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكاد أجزم أن الإنسان في أول سيره على الأرض فكر في أمرين: أن يأكل أولاً، ثم أن يكون له مكان أو بيت يؤويه، وصحيح أن الآثاريين والجيولوجيين قد أثبتوا عبر الكتابات والرسومات على جدران الكهوف أن الإنسان الأول سكن الكهوف، وعاش فيها زمناً طويلاً إلى أن تطور مسار الحياة والحضارة، إلا أن خيالاً جانحاً يمنعني من تصديق تلك الصورة، أو تصديقها، ولكن في حدود قابلة للنقاش.

أو فإن هذه الصورة النمطية، التي صدرتها لنا القواميس والمجلات والأفلام الأجنبية الساذجة للإنسان الأول غالباً ما تعرضه لنا على هيئة رجل منكوش الشعر، هزيل الجسد، يرتدي جلد حيوان، يستر جسده، ويجر زوجته من شعرها إلى داخل الكهف، فأين كان ذلك يا ترى؟ في أي منطقة جغرافية أو في أي بلد أو قارة يمكن للإنسان أن يسكن الكهف طيلة الوقت، بعيداً عن تأثيرات المناخ، البرد القارس، الثلوج، العواصف، الحر الشديد.. إلخ، ربما كان الكهف مرحلة عابرة جداً في حياة البشرية، تسلّى الإنسان فيها بالرسم والكتابة على الجدران، واكتشف النار، وطهى طعامه، وبحث عن الماء، وتتبع مجاري الأنهار، وهناك جلس واستقر، وكان من الطبيعي عندها أن يفكر في بناء بيت يؤويه!

عرف الإنسان البيت بمجرد أن خطرت بباله فكرة الاستقرار في المكان، وهذه ارتبطت بالزراعة التي أوجدتها ظاهرة الأنهار، لذلك فكل الحضارات في التاريخ قامت بجوار مصبات الأنهار الكبرى، ومن هناك تنوعت مظاهر الحضارة: الزراعة، تكوين الأسرة، بناء المجتمعات البدائية الأولى، إقامة الأسواق، إقرار نظام التبادل التجاري والمقايضات.

نبني البيوت إذن ثم نستقر، وما إن نستقر حتى نعي معنى بناء المدينة وكل ما تستلزمه، أما الإنسان فإنه ما يلبث أن يعاود الانتقال من بيته الأول، ليبني بيته الثاني فالثالث وهكذا، حكاية الإنسان مع البيت حكاية تروى، فاللغة بيت، والزواج بيت، والوطن بيت.. وهكذا للبيت معان وإيحاءات وتشكيلات كثيرة، ربما تحدثنا فيها غداً.

Email