العجوز

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت أغوص في أريكتي بكل ما أوتيت من كسل وأنا أجلس في أحد مقاهي الحي الذي أقطنه في إحدى العواصم ذات خريف، كان الطقس بارداً، لكنه جميل بما لا يقاس، وقد منحني النادل دثاراً صوفياً بسيطاً فيما لو اشتد الطقس برودة، كان النهار يلوح مودعاً، والمساء منشغل يلون صفحة السماء بعبقريته، وفي الأفق الممتد أمامي أناس يقطعون المكان جيئة وذهاباً، وأطفال يعبثون بدراجاتهم، ونساء يتحدثن همساً على مقاعد متباعدة، ثم مرت تلك العجوز، تنقل خطواتها ببطء، وتدفع عربة صغيرة تحوي بعض الخبز، وقنينة ماء.

تأملت مشيتها، كان بالكاد يلوح زمن.. الزمن الرابض بوهن في المسافة التي لا ترى بين قدميها والأسفلت، وما بين خطواتها ودرجات السلم الثلاث، أهذه التي كانت تمر قفز غزال بين الرصيف والرصيف الآخر منذ زمن؟ سألت نفسي وأنا أتأملها تشد نفسها للحظة الآتية بصعوبة، يوغل الطريق امتداداً، وهي ترنو إلى نهايته بأسى، وحيدة تمضي، ووحيدة تكمل الأيام الباقيات لها، لا أحد تستند إليه أو عليه!

أتتبعها، أتتبع الزمن الصاعد هروباً من بين رجليها، وأسأل اللحظة: ماذا أبقى الزمن لها؟ ماذا تتمنى هذه العجوز الآن؟ أي حلم لا يزال قابعاً هناك في تلك الذاكرة الهاربة وربما المعطوبة؟

نعم كلنا هاربون ومعطوبون بشكل أو بآخر، مع ذلك فهروب العمر حارق، وعطب الذاكرة قاسٍ بشكل لا يصدق، لكن الشيخوخة عقاب سرمدي، فحين تبدأ الذاكرة في التخلص من حمولتها يشعر صاحبها أنه يعيش في الفراغ، حيث لا ملامح ولا أسماء، فحين تطارد اسماً تعرف أنك تعرفه جيداً، لكنك ما عدت قادراً على تذكره، تصير الذاكرة لغزك الأكبر، وسجنك وعقابك!

شعرت أنني أعرف تلك العجوز، أعرفها تماماً، وأعلم أن كل شيء قد ضاع منها في غياب ما قبل الغياب الكبير، وتذكرت (ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم)، فقلت كيف بمن تجاوز الثمانين بكثير؟ فهل يسأم الإنسان الحياة فعلاً؟

Email