الذين يحفظون الذاكرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعض الكتاب والروائيين العرب وحتى غير العرب متخصصون في العناية بالذاكرة الجمعية، يلتقطون تفاصيل التفاصيل المتعلقة بالتاريخ والأمكنة والطقوس الحياتية للناس، الأحياء والحارات، وكذلك العواطف والأحلام والمخاوف، ينسجون منها وحولها ولها حكايات وقصص، ويحفظونها في كتبهم، كي تبقى للناس وللأجيال، شاهدة ومذكرة.

من أشهر هؤلاء نجيب محفوظ، الذي حفظ ذاكرة القاهرة القديمة وحارات مصر التي كانت، وكذلك إبراهيم نصرالله، الذي يستدعي التاريخ ونسج حوله تاريخاً متكاملاً يسميه الملهاة الفلسطينية، أحدهما يحفظ ذاكرة الأمس، والآخر يحفظ ذاكرة للمستقبل، وكلاهما يحفظ الحق والهوية والتاريخ حتى لا يأتي من يقول: هذا ليس لكم.

هناك أشخص كثيرون بيننا مصابون بداء الحنين ليسوا كتاباً ولا روائيين، لكنهم أوفياء جداً لذاكرتهم بكل تفاصيلها وهم أصحاب ذاكرة ملونة واحتفائية وضاجة بالأسماء والروائح والأحاديث على الدوام، الصور فيها متحركة، الشخوص جميلون والألوان تحتفظ بطزاجتها كزهور عباد الشمس في لوحة فان غوخ، هم لا ينسون لون ثياب أمهاتهم وأخواتهم التي لبسنها في أعياد طفولتهم.

إنهم يحتفظون بذاكرة روائح قوية تذكر ببطل رواية «العطر» كما أنهم جيدون في علم الهندسة، لذلك فهم يتذكرون جيداً مساحات الغرف التي سكنوها في تلك السنين البعيدة ومساحة فناء المدرسة الابتدائية والساحة المتربة التي لطالما تعثروا بأقدام حافية فيها وهم يمارسون ألعابهم في تلك الأيام، هؤلاء ليسوا مرضى بالوهم، لكنهم مغروسون في الأرض بقوة ورومانسيون أو مثاليون وهي ميزات حميدة وليست من قبيل التهم كما قد يفهم البعض!

إن الناس هذه الأيام لن تراكم ذاكرة للآتي من الأيام، الهواتف النقالة والشرائح المضغوطة ومواقع التواصل تقوم بذلك نيابة عنهم، تحفظ الصور، تحفظ أرقام الأهل والأصدقاء، تذكرهم بتواريخ أعياد ميلاد أبنائهم وأحبتهم، يرن المنبه ليوقظهم صباحاً، وليذكرهم بالاجتماعات والمواعيد والفواتير المستحقة الدفع، ماذا تفعل الذاكرة التي في القلب والعقل؟

Email