متاهة الذاكرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم أستطع حتى هذه اللحظة أن أصل إلى طبيعة تلك العلاقة التي تربط الإنسان بأمكنة بعينها، والأمر لا علاقة له بالذاكرة أو الطفولة أو بأحداث مصيرية أو مؤثرة ارتبطت أو حدثت في تلك الأمكنة، فشكّلت تلك الرابطة الوثيقة التي تجعلنا كلما ثارت الذكريات تجلت الأمكنة تلقائياً.. إذن، إذا لم يكن للأمكنة علاماتها المضيئة أو المحفورة في الوجدان أو العقل، فلماذا هذا الارتباط؟

وهل يمكن أن يشكّل مرور عابر بمكان ما (مقهى أو حانوت صغير أو قرية على الطريق أو بيت ضيافة) وأنت تقطع طرقاً لا نهاية لها ذاكرة حقيقية؟ ذاكرة بكل ما تعنيه الكلمة، حيث يبدأ عقلك باستعراض قصاصات لمشاهد متناثرة، ووجوه وأصوات وروائح تبدو لك بعيدة جداً وغائمة، كأنها تطل من ثقوب مجهولة، فتتساءل كيف احتفظ عقلي في لحظة العبور الخاطف ذاك بكل هذا الخزين؟

إن كل هيجان الذاكرة المباغت هذا قد يحدث لك ما إن يذكر أمامك ذاك المكان أو تجد أحد أصدقائك ينشر صوراً له فيه؟ هل يبدو الأمر عادياً، عابراً، أم أنه لا يستحق التوقف؟ لا أدري، لكن السؤال صحبني طوال نهار الأمس وأنا أتأمل صوراً ومقاطع مصورة لقرية صغيرة وعتيقة جداً من حيث تاريخها البشري والحضاري، كنت قد زرتها منذ سنتين أو أكثر أثناء قضائي عطلة الصيف في النمسا، أمضيت فيها سحابة نهار لا أكثر ثم مضيت!

عندما فاجأتني بعض الصور وأنا أقلب صفحات الفيسبوك، أحسست بأنني أنا التي كنت أمشي داخل تلك الصور، وبأنني أعرف على وجه الدقة أن ذاك الطريق سينفتح في نهايته على مشهد البحيرة الهادئة، وأن ذلك الزقاق سيفضي إلى ساحة القرية حيث المطعم المتواضع الذي تناولت فيه شطيرة بيتزا عادية جداً منذ سنتين، تواجهني كنيسة قديمة قيل لي إنها أنشئت منذ 700 عام، وإنها عاصرت أحداثاً جساماً لها علاقة بثورة مارتن لوثر الدينية!

تبدو الذاكرة متاهة شاسعة وغريبة جداً!

Email