نصير أكثر حكمة... وحزناً

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما كنت صغيرة كنت أسمع جدتي تردد عبارات لا أفهم معناها، فإذا سألت أمي عما كانت تقصده جدتي بتلك العبارات كانت تجيبني في كل مرة: «غداً تكبرين وتفهمين» ولقد تكررت هذه الـ «غداً ستكبرين وتفهمين» حتى صرت أحلم باليوم الذي سأكبر فيه تماماً كما جميعنا، ولقد كبرنا فعلاً، وعرفنا وفهمنا، ثم تمنينا لو أننا لم نكبر ولم نفهم !!

عندما بدأت أكبر سمعتهم يقولون إن الكبار حكماء، وإن الحكمة تحتاج إلى زمن لتنضج، وتخيلت أن الحكمة مثل الطبخة لا بد لها من وقت لتنضج، لكنني حين كبرت أكثر عرفت أن الحكمة مثل النار تلتهم نزق القلب لتهبه للعقل، وأنه كلما كبرنا قل فرحنا وتضاءلت دهشتنا، لأننا نصير أكثر حكمة وأكثر دراية بالحسابات والمعادلات، عند ذلك تمنيت أن لو لم أكبر حتى لا أفقد نزق الفرح في قلبي ودهشتي بالأشياء والتفاصيل، فالطفل وحده يفتح فمه وعينيه مندهشاً أمام الأشياء المدهشة، ووحده يمارس فرحه الحقيقي لأنه لم يكبر ولم يصبح حكيماً ولم يتقن فن الحسابات بعد!

لذلك يمكنني تخيل كم عاش الفلاسفة في جحيم الحكمة.

كانت والدتي تردد دائماً أن الإنسان كالطير، لكنه يسخر منه بدلاً من أن يتأمل حكمته، كنت أسأل عن المعنى، وكانت تقول لي كالمعتاد «ستفهمين عندما تكبرين»، وكبرت وسافرت وودعت، ووقفت كثيراً مودعة في المطارات ومستقبلة في صالات انتظار مطارات أخرى، وكثيراً ما دفعت بحقائبي وركبت قطارات وغادرت محطات، حزنت كثيراً وفرحت كثيراً، عشت الوحدة وعشت أسى الفراق، وفهمت كيف أن الإنسان مثل طائر صغير ضعيف يحلق في كل الفضاءات ويسافر في كل الدنيا، لكنه أبداً لا يقاوم حنين العش الأول.

فكم منزل في الحي يألفه الفتى

                              وحنينه أبداً لأول منزل

الإنسان مثل طائر حقيقي يحلق حتى آخر الدنيا، صباحاً يكون في أرض وبين أحبة، ثم يهطل عليه ليل آخر فإذا هو في بلاد أخرى وتحت سماء مختلفة يحتسي قهوته مع رفاق آخرين، طائر يسخر من الطيور لضعفها معتقداً بعنفوانه كما تقول أمي، فإذا هو لا يقل عنها ولا تظلله إلا السماء ذاتها التي تظلها !

اعتدت أن أكون معها دائماً لا نفترق رغم تقادم الزمن، لذلك عندما تسافر أمي وحدها دون أن أكون معها، أشعر كما يشعر الأطفال، أشعر بأنني وحيدة رغم كثرة الناس والأصحاب، وأن الدنيا تضيق على اتساعها، وأتذكر ذلك القول الذي قرأته ذات يوم «إن الإنسان يبقى طفلاً مهما كبر في العمر حتى تغادر والدته».. وحدها الأم تبقينا على صلة بعالم طفولتنا وتنادينا مثل أطفال صغار، ومثل أطفال صغار تنظر إلينا متناسية أن الطيور تكبر، أيضا، وتحلق بعيداً!

Email