مئة عام من العزلة!

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحكايات الصغيرة لا تنتهي، أحياناً كثيرة أفكر في أن واحداً من أهداف وجودنا على الأرض أن نحكي قصصاً للآخرين، قصصاً نؤلفها من خيالنا الممتلئ بصور وكلمات ومواقف وأسماء لا حصر لها، نحن لا نفعل شيئاً حين نؤلف حكاية ما، سوى أن نجلس في منتهى الاستعداد والتوثب لتلقي هدايا الإلهام.

بينما تتدلى الكلمات والأفكار وخيوط الحكاية هناك في مكان ما، تثير ضجيجها في داخلنا وتضحك لنا، هكذا تتلاعب بنا الحكايات التي نؤلفها، ثم فيما بعد تصير ملكاً للجميع، تصير إرثاً وتراثاً، تمنح الناس البهجة والضحك والحكمة، وتحوّل صاحبها إلى حكّاء كبير يمنحه الناس الحب والشهرة بينما تمنحه الحياة الجوائز والخلود!


هناك حكايات/روايات يجب أن نقرأها، وهذه «يجب» ألّا تأتي من برج الوصاية، ولكن من عمق الدهشة، فحين تقف مدهوشاً أمام حكاية أو صورة أو مدينة تفكر سريعاً بهذه الطريقة، يجب أن يرى فلان هذه المدينة أو يقرأ هذه الرواية، إنها «يجب» المشاركة بمحبة لشيء فائق الجمال لا يحتمل أن تستأثر به وحدك، لا بد أن يفيض على الآخرين فيرونه أو يقرأونه، هناك حكايات منحت أصحابها مجداً لم يخطر ببالهم يوماً.

كما لم يخطر ببالك أنت الذي تقرأ أنه يمكن لإنسان أن يكتب بكل هذا القدر من السحر، جارسيا ماركيز فعل ذلك، وكثيرون غيره فعلوا، لكن دعونا اليوم نمشي في طرقات قرية ماكوندو، القرية التي أوجدها ماركيز على الخريطة لمئة عام ثم نسفها نسفاً!


«الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه»، بهذه العبارة افتتح الروائي الكولومبي غابرييل جارسيا ماركيز الجزء الأول من مذكراته، أو سيرته الذاتية، مقرراً منذ بداية العنوان أن كل ما عاشه في حياته رواه لنا بشكل أو بآخر عبر عشرات الروايات، «لقد عشت لأروي»، بهذه الفلسفة كتب ماركيز حكاية حياته، لكن وكرأي شخصي، فإن «مئة عام من العزلة»، الرواية التي نال بها جائزة نوبل للآداب، هي الرواية الأجمل والحكاية الأكثر سحراً بين كل ما كتب.


ذات ليلة قريبة اكتشفت أنني لم أقرأ هذه الرواية بعد، وأن كل ما أعرفه عنها هو ما قرأته من تحليلات ومقالات الآخرين، وأن هناك خطأ شكلياً أو فنياً ربما أوقعني في وهم قراءتها، عند ذلك استخرجت الرواية وعكفت عليها منذ المساء حتى التاسعة من صباح اليوم التالي، كان يجب أن أنهيها، أولاً لأنني قرأتها متأخرة جداً، وثانياً لأن فيها من السحر والغرائبية والإبداع ما يجعلك لا تستطيع إلا أن تنهيها، لتكتشف أن «مئة عام من العزلة» رواية تستحق أن تُقرأ!

Email