حرب أوكرانيا وانهيار «العولمة»

مع بدء تسعينيات القرن العشرين الماضي اندلعت في العالم على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها، موجة واسعة من الاحتفاء بما بات اسمه «العولمة».

وفاضت بحار من الدراسات والتقارير والمقالات والتقديرات بكل أنواعها، لتضع لها تعريفاً مدققاً، وتدرس وتتعامل مع مختلف جوانبها وأبعادها.

وفي ظل هذا الولع والانبهار بهذه «العولمة»، على كل المستويات شهد الصعيد السياسي عديداً من الاستنتاجات والتوقعات حول المستقبل السياسي للعالم، وخصوصاً وحدته الأساسية «الدولة».

وذهبت الأغلبية الساحقة من هذه الاستنتاجات والتوقعات حول هذا الكيان، إلى القول إن المستقبل سيحمل إزاحة ثم إزالة الحدود الجغرافية القائمة بين الدول، وإن التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصال سيعجّل بهذا المصير، ويجعل العالم بمثابة «قرية كونية واحدة»، يتشارك مختلف سكانها أنماطاً متشابهة من القيم والعادات والثقافة والأبنية الاجتماعية.

وظلت هذه الأفكار مهيمنة في المجالات المختلفة لقرابة عقود ثلاثة، حتى أتت جائحة كورونا في مفتتح العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وما بعدها من تغيرات، لتطيح بمعظم استنتاجات وتوقعات مستقبل العالم مع «العولمة».

وقد كانت هي الجائحة الكبرى الأولى، التي عرفها العالم منذ أكثر من قرن مع ظهور جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة قرابة خمسين مليون شخص حول العالم. وأبرزت «كورونا» على الصعيدين الاجتماعي والسياسي كم هي هشة افتراضات «العولمة» بقرية كونية واحدة، يتشارك سكانها في كل شيء.

فقد عادت البشرية إلى تكويناتها الاجتماعية الأساسية والثابتة في مواجهة خطر الموت الداهم، فبدلاً من أن يتواصل العالم أغلقت الدول والمدن والقرى والشوارع والأسر على نفسها، وامتنعت عن التواصل مع الآخرين خوفاً على حيوات أفرادها.

ولم يكن هناك من فائدة حقيقية لثورة الاتصال التكنولوجية الهائلة سوى تسهيل قيام مليارات البشر المعزولين بأعمالهم ودراساتهم «عن بعد» اتقاء للقاء المباشر معاً، ولكن ظل الحرص على النفس، سواء كانت فردية أو جماعية صغيرة أو متوسطة أو حتى كبيرة، هو الحائل الأكبر دون مغامرة أهل «القرية الكونية الواحدة» المزعومة بالاقتراب من بعضهم البعض.

ووصل الأمر على الصعيد السياسي – الاقتصادي – الصحي أن بعضاً من حكومات دول العالم المتقدمة للغاية قد غلبت مصالح شعوبها على بقية «أهل القرية»، فقامت إما بالاستيلاء عنوة على شحنات من أمصال التطعيم المحدودة حينها من حكومات دول أخرى، وإما برفض غيرها ممن لديها قدرات على إنتاج هذه الأمصال منحها أو بيعها لشعوب أخرى قبل توفير احتياجات شعوبها منها.

ومن حينها راحت أسس «العولمة» تتهاوى واحدة بعد أخرى، وربما كان هناك حدثان سياسيان كبيران عرفهما – ولا يزال - العالم في السنوات الأخيرة، كانا هما الأبرز في مشهد التهاوي هذا.

ففي ظل الحديث المزعوم بأن «العولمة» ومعها التقدم التكنولوجي الهائل قد أطاحا بقيمة ومعنى «الأرض» في ثقافة العالم السياسية وشعوبه وتصرفاتهم، أتت الحرب الروسية – الأوكرانية لتبرز سواء في تطوراتها المأساوية أو فيما جارٍ الآن من مفاوضات لإنهائها، أن هذه «الأرض» بما عليها من شعوب لها ثقافاتها المتنوعة ومواريثها التاريخية المختلفة، تظل هي جوهر الكيان العالمي الرئيس والمستقر وتقريباً الوحيد، أي «الدولة»، وليس «القرية الكونية الواحدة» المزعومة.

وأتى وصول الرئيس دونالد ترامب لحكم أمريكا قبل عام تقريباً، ليتوج المؤشر الثاني لانهيار «العولمة» وقريتها الكونية، والذي تراكم على مدار السنوات السابقة في أوروبا، وهو اتخاذ دولها موقفاً رافضاً صارماً من دخول رعايا الدول الأخرى إلى أراضيهم، خوفاً على شعوبهم ومصالحهم وثقافاتهم وعاداتهم الاجتماعية، على الرغم من أنهم جميعاً من أهل «القرية الكونية الواحدة» المزعومة.

فالرئيس الأمريكي وفور وصوله اتخذ من الإجراءات الأمنية والسياسية والعسكرية لكي يحول دون دخول فئات كثيرة من أهل هذه «القرية الكونية»، إلى بلاده سواء بصورة شرعية أو غير شرعية، حفاظاً على مصالح شعبه، ولم يشفع لهؤلاء بالطبع انتمائهم لهذه «القرية» ولا التقدم التكنولوجي الهائل، الذي تعرفه أمريكا والعالم، لكي يغير الرئيس سياساته.

وهكذا يبدو أن الأكثر ترجيحاً من ملاحظة ما يشهده العالم والبشرية، خلال السنوات الأخيرة، أن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي يعرفانه لم ولن يطيحا بما قام عليه العمران الإنساني عبر آلاف السنين والسياسي منه، خلال مئات السنين، وأن الحديث عن «العولمة» أو «القرية الكونية الواحدة» يجب أن يتحلى بقدر أكبر من الواقعية، ويراجع أصحابه أنفسهم في مدى صحته، والأسس التي يقيمونه عليها.