وفاضت بحار من الدراسات والتقارير والمقالات والتقديرات بكل أنواعها، لتضع لها تعريفاً مدققاً، وتدرس وتتعامل مع مختلف جوانبها وأبعادها.
وفي ظل هذا الولع والانبهار بهذه «العولمة»، على كل المستويات شهد الصعيد السياسي عديداً من الاستنتاجات والتوقعات حول المستقبل السياسي للعالم، وخصوصاً وحدته الأساسية «الدولة».
وذهبت الأغلبية الساحقة من هذه الاستنتاجات والتوقعات حول هذا الكيان، إلى القول إن المستقبل سيحمل إزاحة ثم إزالة الحدود الجغرافية القائمة بين الدول، وإن التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصال سيعجّل بهذا المصير، ويجعل العالم بمثابة «قرية كونية واحدة»، يتشارك مختلف سكانها أنماطاً متشابهة من القيم والعادات والثقافة والأبنية الاجتماعية.
وقد كانت هي الجائحة الكبرى الأولى، التي عرفها العالم منذ أكثر من قرن مع ظهور جائحة الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة قرابة خمسين مليون شخص حول العالم. وأبرزت «كورونا» على الصعيدين الاجتماعي والسياسي كم هي هشة افتراضات «العولمة» بقرية كونية واحدة، يتشارك سكانها في كل شيء.
فقد عادت البشرية إلى تكويناتها الاجتماعية الأساسية والثابتة في مواجهة خطر الموت الداهم، فبدلاً من أن يتواصل العالم أغلقت الدول والمدن والقرى والشوارع والأسر على نفسها، وامتنعت عن التواصل مع الآخرين خوفاً على حيوات أفرادها.
ووصل الأمر على الصعيد السياسي – الاقتصادي – الصحي أن بعضاً من حكومات دول العالم المتقدمة للغاية قد غلبت مصالح شعوبها على بقية «أهل القرية»، فقامت إما بالاستيلاء عنوة على شحنات من أمصال التطعيم المحدودة حينها من حكومات دول أخرى، وإما برفض غيرها ممن لديها قدرات على إنتاج هذه الأمصال منحها أو بيعها لشعوب أخرى قبل توفير احتياجات شعوبها منها.
ففي ظل الحديث المزعوم بأن «العولمة» ومعها التقدم التكنولوجي الهائل قد أطاحا بقيمة ومعنى «الأرض» في ثقافة العالم السياسية وشعوبه وتصرفاتهم، أتت الحرب الروسية – الأوكرانية لتبرز سواء في تطوراتها المأساوية أو فيما جارٍ الآن من مفاوضات لإنهائها، أن هذه «الأرض» بما عليها من شعوب لها ثقافاتها المتنوعة ومواريثها التاريخية المختلفة، تظل هي جوهر الكيان العالمي الرئيس والمستقر وتقريباً الوحيد، أي «الدولة»، وليس «القرية الكونية الواحدة» المزعومة.
فالرئيس الأمريكي وفور وصوله اتخذ من الإجراءات الأمنية والسياسية والعسكرية لكي يحول دون دخول فئات كثيرة من أهل هذه «القرية الكونية»، إلى بلاده سواء بصورة شرعية أو غير شرعية، حفاظاً على مصالح شعبه، ولم يشفع لهؤلاء بالطبع انتمائهم لهذه «القرية» ولا التقدم التكنولوجي الهائل، الذي تعرفه أمريكا والعالم، لكي يغير الرئيس سياساته.