أمن الكويت القومي ... خط أحمر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الكويت من الدول القليلة التي عرفت كيف تربط بين أمنها القومي وسياستها الخارجية، بل هي من أسس هذه المدرسة في المنطقة يوم كان الانفتاح على الاتحاد السوفياتي السابق كفرا، ويوم كان الاحتفاظ بعلاقات مع الدول كدول لا كأنظمة انقلابا، ويوم كان مد اليد إلى الشعوب بغض النظر عن نوعية السلطة الحاكمة مغامرة، ويوم كان الجهد الدائم المبذول للمصالحات والانفتاح على كل فرقاء الحرب والنزاع تغريداً خارج السرب.

كانت ديبلوماسية الكويت مدرسة حقيقية نأت بنا عن الدخول في محاور وصراعات وحروب نحن في غنى عنها، وقد يكون الأفضل القول إننا لا نقدر على تحملها. طبعا، لم تحم حدودنا من اجتياحات ولا مجتمعنا من توترات لكن ذلك حصل بفعل ارادات شر خارجية واطماع، وبفعل حماسة قلة في الداخل وتغليبها العاطفة على العقل والمشاعر على المنطق.

بشكل عام، عكست سياستنا الخارجية حرصا على صيانة الامن القومي، بل كان أداؤها في هذا المجال أفضل بكثير من أداء الإدارات والوزارات الأخرى في ما يتعلق بالشأن الداخلي حيث التخبط والارتجال والفوضى... وأيضا الحماسة والعاطفة من قبل السلطة، وهذا التناقض لمسناه لمس اليد بعد انطلاق الربيع العربي ورأينا جليا الفارق بين صورة الكويت الديبلوماسية وصوتها داخليا.

مرة أخرى، للربيع العربي سببان (من دون الدخول في نظرية المؤامرة)، غياب الخبز أو غياب الحرية. في الكويت الوضع مختلف. قلتها وأقولها مراراً من دون تقصد الغرور أو المباهاة، ان دول الربيع العربي لو وصلت إلى نصف ما هي عليه الكويت اليوم لامكننا القول إن ثوراتها نجحت، فنحن والحمد لله نعيش ربيعاً دائماً رغم كل ما لدينا من أخطاء وخطايا وفساد وسوء إدارة، لان النظام يحلق (ما أمكن) بجناحي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، ويصحح نفسه تدريجياً من خلال المؤسسات القائمة والحراك السياسي وحركة المعارضة التي هي جزء لا يتجزأ من النظام.

ويمكن القول إن أسوأ ارتدادات التغيرات السياسية في المنطقة عبر أجوائنا، ونالنا منه ما نالنا، ووجدنا أنفسنا ككويتيين أمام حوادث وتجارب ولغة خطاب وانفلات غرائز لم نعهدها من قبل ولا نريدها ان تتكرس لاحقا. والأخطاء هنا ليست من المعارضة فحسب بل من المعارضة والحكومة أيضا، لأن قلة التجربة داخلياً غلبت أيضاً العواطف والغرائز والمشاعر على العقل والمنطق والحكمة، فسار الطرفان الى منطقة الصدام عن قلة وعي أو استدراج... وحصل ما حصل، قبل أن تعود الأمور الى الاستقرار نتيجة رغبة الغالبية الصامتة من الكويتيين في نقل القضايا من الشارع إلى المؤسسات.

أسوأ الارتدادات عبر اجوائنا لكنه لم يرحل تماما. لنكن صريحين إن كان الامن القومي للكويت همنا، فالاستقرار اهم من السلطة والحكومات والمعارضات والمؤسسات، ومن غيره سينتفي وجود هؤلاء جميعاً. منذ فترة والخطاب المذهبي والقبائلي يطغى داخلياً حتى وصل الى الجامعات والمعاهد التربوية، اي ان المرض وصل الى العظم، الى جيل الشباب الذي سيشكل مستقبل الكويت.

ومنذ فترة وبعض الشخصيات السياسية يستغل هذا الخطاب لأسباب انتخابية وخاصة ومصلحية. شخصيات وضعت اعتباراتها الخاصة فوق اعتبارات الاستقرار وحكومة عاجزة عن التحرك لوقف ما يمزق الوحدة الوطنية لاسباب كثيرة مللنا من ذكرها... وصار هذا الخطاب المذهبي المتطرف المقيت اساسا لمواقف مجاميع سياسية وشعبية من احداث المنطقة وتحديدا ما يتعلق منها بالربيع العربي. لم تعد القصة قصة مبدئية أو رؤية أو دعماً. صارت مكشوفة وواضحة ويعجز النفاق عن تغطية اهدافها الحقيقية الممثلة بتسعير الانقسامات على أسس طائفية ومذهبية لضرب الاستقرار وبالتالي الأمن القومي.

لا نبالغ في كلمة، وإلا فما معنى أن يدعم شخص فصيلاً معينا من فصائل الثورة في بلد ما ويدعم النظام في بلد آخر لا يسمح بمجرد التعبير عن الرأي؟ إذا كان التضامن إنسانياً فالانسانية مظلة الجميع وإن كان نصرة للحريات والحصول على الخبز فالجميع يتساوى، أما إذا كان التضامن مذهبياً فقط فهنا الطامة الكبرى. والشيء نفسه ينطبق على من يكرس وقته وجهده لدعم تحرك شعبي هنا ويصمت صمت القبور عن مذابح هناك بل اكثر من ذلك يدعم من يذبح بالمال والتبرعات، ناهيك عن أحزاب خارجية ودول ترى بعين واحدة وتنكشف حقيقتها على اللون الطائفي الأسود.

ما لنا وللآخرين. علينا بالكويت. أمننا القومي خط أحمر، فالعالم كله لا يمكنه إرسال مخططاته للتنفيذ عندنا إذا لم نكن منقسمين وصوت الطائفة أو المذهب أو القبيلة أولًا.

أمننا القومي مهدد إذا كانت هيئات شعبية وسياسية ودينية تعمل بلا حسيب ولا رقيب على دعم انتفاضة هنا وثورة هناك بالمال والسلاح والتبرعات. لسنا ضد التعاطف وإبراز الموقف الواضح والصريح شرعياً وسياسياً وإنسانياً وديموقراطياً وقومياً ضد الظلم والقمع، ولا يزايدن علينا أحد في ذلك، لكن ما يحصل اليوم يخرج عن المنطق. ما معنى المطالبات بالتبرع للمساعدة على دعم فئة تقاتل خارج الحدود مرفوقة بالتمني بـ «ذبح» أبناء طائفة أخرى؟

ما معنى أن تضبط سلطات المنافذ أموالاً بمئات الالوف خارجة وداخلة؟ ما معنى ان يصبح جمع المال لشراء أسلحة وظيفة بعض من يستغل اسم القبائل علنا وفي وضح النهار؟ ما معنى التدخل لدى فصائل متحاربة لدفعها الى اتخاذ موقف، ليس ضد النظام الذي تقاتله، بل ضد فصائل أخرى في المعارضة تقاتل معها في الخندق نفسه؟ ما معنى أن ندفع لتمويل متفجرات هنا وذخائر هناك؟

هل هذا كله تحت سقف القانون؟
هل تعي الحكومة أن المال الذي يخرج لشراء سلاح يمكن أن يدخل أيضاً إلى الكويت لشراء ولاءات... وسلاح... وذمم؟ وأن السلاح الفردي الموجود لدى الكثيرين يمكن أن يستخدم من قبل كثيرين إذا انفلتت الأمور؟ وان ارتدادات التدخل غير المدروس هنا وهناك يمكن ان تعود الينا بتدخلات «مدروسة» هذه المرة ومن قبل أنظمة وتنظيمات وأحزاب مارقة لا تعرف إلا لغة العصابات؟ وأن (وهذا أخطر ما في الموضوع) السماح بالتمادي في الخطابات المذهبية والطائفية العلنية بحجة دعم هذه الثورة أو تلك يمكن أن يستغل مستقبلا لإشعال شرارة الشر؟

هل هناك حكومتان؟ واحدة تتعاطى برؤية وتحضر وفهم بالسياسة الخارجية وأخرى تتعاطى بجهل وتخبط وقلة خبرة بالسياسة الداخلية؟
قبل ذلك كله هل تعرف الحكومة ماذا يعني الأمن القومي؟
حفظ الله الكويت وأهلها من كل مكروه.

Email