يسألني أصدقاء عرب عن سبب ارتفاع صوت النخب الإعلامية والفكرية الكويتية في الحديث عن الربيع العربي والثورات العربية بينما الصوت نفسه ينخفض عندما يتعلق الأمر بالخليج عموما والكويت خصوصا... ثم يصبحون مباشرين أكثر: الا يوجد احتمال لحصول ثورة في الكويت في ظل كل هذا التوتر السياسي والتحرك الشعبي؟ خصوصا ان بعض رموز السياسة عندكم يتحدثون ليل نهار عن الربيع القادم الى الكويت؟
أصدقائي الاعزاء، نحن لسنا عنصريين ولا من جنس الملائكة والمثالية بعيدة عنا كبعدها عنكم. الكويت دولة إسلامية عربية وهي جزء من هذا المحيط الطويل العريض. تتأثر كثيرا وتحاول التأثير قليلا بحكم حجمها وموقعها وانشغالاتها والتحديات التي تخوضها... إنما الإنصاف يقتضي القول إن مسافة كبيرة تفصل بين الدول التي شهدت ربيعا وثورات وبين الكويت.
أسباب كثيرة فجرت الثورات العربية إنما يمكن اختصارها بعنوانين كبيرين يحملان كل أنواع الشروح والتفاصيل: غياب المشاركة السياسية وانهيار الوضع الاجتماعي.
في العنوان الأول تأتي الديكتاتورية والسلطة المطلقة التي تجعل «الزعيم» يضع نفسه في مصاف الأنبياء والأئمة والعياذ بالله، وان لم يفعل هو ذلك فعل المحيطون به ما هو أكثر من ذلك. هنا، تصبح كل صنوف القمع مبررة لأن المعارض لا يعارض مسؤولا سياسيا بل يعارض الدين والتاريخ والجغرافيا والمقدسات. غابت المشاركات السياسية واقتصرت على من تختارهم السلطة وفق معايير الولاء المطلق والزحف ولعق الأحذية والاستعداد لتنفيذ أقذر المهمات. ارتفع شعار «الزعيم أولا» وتراجعت كل الأولويات الوطنية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية. امتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، وامتلأت المقابر بالمعارضين ما
اضطر النظام إلى إنشاء مقابر جديدة في الأبنية قيد الإنشاء أو إسقاط الأجساد في الاسيد امعانا في القهر والإذلال.
في العنوان الثاني قهر من نوع آخر، لا فرص عمل ولا معالجات حقيقية للمشاكل الاقتصادية ولا خطط تنموية. كلما ازداد خط الفقر انتشارا انتشى النظام وأدرك أن انشغال الناس بقوت يومها سيحد من حماستها للتغيير السياسي، اضافة إلى ان الفقر والقهر والإذلال والجوع والخوف على مستقبل الأبناء أسلحة سياسية بيد النظام للثواب والعقاب، فمن يكتب تقريرا بزميله أو قريبه يحصل على وظيفة أو جواز سفر، ومن يدخل مؤسسات الحزب الحاكم يدخل أولاده هذه المدرسة أو تلك الوزارة.
عنوانان أوصلا المواطن العربي إلى حائط مسدود. أقفلا الآفاق أمامه وجعلاه أمام خيارين: الموت البطيء أو الموت السريع. انتفض غير آبه بالثمن لانه سيربح ولن يخسر شيئا. في بعض الدول بدأت الشرارة اجتماعية وتحولت سياسية. في بعضها الآخر بدأت سياسية واستمرت. في غيرها انطلقت بالعنوانين معا.
بصراحة، وبكل نية صادقة ومن دون أي تعالٍ أو استعراض، استطيع ان اقول إن العنوانين المحركين للثورات العربية لا يتصدران المشهد العام في الكويت ولم يتصدراه يوما من الأيام. وبصراحة أكثر أقول إنني كمواطن عربي سأكون في قمة سعادتي ان وصلت الأمور في دول الربيع العربي إلى ما وصلت إليه الكويت قبل عقود.
لسنا مثاليين، وأخطاؤنا لا تحملها الجبال كما قال سمو الأمير قبل أعوام، لكن عناوين الثورات العربية بالمعنى الذي عرضته ليست موجودة في الكويت، ولا حاجة بي لتكرار الحديث عن دستورنا والحريات التي نتمتع بها في ظله والديموقراطية التي توافقنا عليها وتعاهدنا. لا حاجة للقول ان سجوننا خالية من معتقلي الرأي وان وسائل إعلامنا مليئة عن بكرة أبيها بكل من يريد التعبير عن رأي، ولا حاجة للحديث عن حجم المشاركة الشعبية في السلطة والثروة أكرر في السلطة والثروة من خلال المؤسسات الفاعلة والآليات المنظمة. أما في المجال الاجتماعي الاقتصادي فأرقام المؤسسات الدولية تتحدث عن نفسها سواء بالنسبة للمداخيل ودعم الدولة والتأمينات أوبالنسبة إلى مستويات المعيشة والتعليم والخدمات، بل يمكنني ان اقول (وهذا لن يعجب البعض) اننا في بعض التفاصيل نعاني من «تدليع» وليس من «ترشيد».
لسنا مثاليين، ولن نكون. الفساد موجود، ومحاولات الانتقاص من التجربة الدستورية الديموقراطية قائمة على قدم وساق. أداء سيئ من السلطتين التشريعية والتنفيذية. انتهاكات ومخالفات وهدر وسوء إدارة. غياب المفاهيم الحقيقية للتنمية القائمة على التطوير البشري لا الحجري. تخلف كبير في مختلف القطاعات ومخاوف من انهيار الميزانية ان كسرت أسعار النفط حاجز التعادل... إنما في مقابل ذلك هناك إرادة دائمة للمقاومة والتصحيح والتغيير نحو الأفضل شأن الكويت في ذلك شأن دول كبرى، بعضها استطاع تجاوز مصاعبه وبعضها الآخر أفلس.
في ظل دستورنا، يمكن لأي كان أن يعتبر المشاركة في الانتخابات واجبا ويمكن لأي كان ان ينتقد ذلك ويعتبره حراما. يمكن لأي كان أن يلجأ إلى القانون لتحصيل حقوقه ويمكن للسلطة القضائية أن تنقض حتى مرسوما موقعا من صاحب السمو. يمكن لأي كان ان ينتقد ويرفع الصوت مطالبا بتصحيح الوضع وتغييره نحو الأفضل ويمكن لأي كان ان ينتقد ذلك ويعتبره خروجا على طاعة ولي الأمر. يمكن لأي كان أن يرسل بناته للعب الرياضة ويمكن لأي كان أن ينتقد ذلك ويعتبره حراما. يمكن لأي كان أن يعتبر الوقوف للعلم والنشيد الوطني جزءا لا يتجزأ من واجبه ويمكن لأي كان أن يعتبر الوقوف للنشيد حراما ويعتبر العلم «خرجة»، والأهم من كل ما
جاء أعلاه (وهذا سر الكويت) انه يمكن لأي كان أن يعيش مؤمنا ومدافعا عن المبدأ الشهير «الشيوخ ابخص» ويمكن لأي كان ان ينتقد ممارسات بعض أبناء الأسرة ويسلط الضوء على تجاوزاتهم ويعريها في محاكمات الرأي العام.
أصدقائي الأعزاء... في التجربة التي تعيشها الكويت أعتقد أن كل حراك سياسي وشعبي ونقابي وإعلامي يغني الديموقراطية ويصححها ويطورها طالما كان تحت سقف الدستور والقوانين والتشريعات، أما إذا انتقلت الكويت من النظام الذي تعيشه الآن إلى نظام آخر بفعل أجندات خارجية محددة تنفذها أطراف داخلية بحيث تنتهي الحريات العامة وتقتل الديموقراطية باسم الديموقراطية، وبحيث يمكن لأي سلطة أن تفرض طريقة واحدة سياسيا واجتماعيا وتربويا واقتصاديا وتحشر الناس بين الحلال والحرام. فعندها، وعندها فقط، على الكويتيين اللجوء إلى خيار الثورة.