نفكر في أنفسنا كثيرًا، ربما أكثر قليلا مما ينبغي، وربما أكثر كثيرا. نعطي أنفسنا حجما.. أو أحجاما.. أكبر بكثير مما هي عليه حقيقةً، ونظن ـ معظم الوقت ـ أننا نبخس أنفسنا حقها من التقدير والتبجيل، ولا نضعها في مواقعها التي تستحقها، ونرى أن هذا تواضع منا يجب أن يُقدَّر، وعلى الجميع أن يدرك أنه تواضع ليس أكثر، لكنه في حقيقة الأمر قد يكون فهما عكسيا للأمور، للمفاهيم، وللحياة ككل. وربما.. يكون فهما طبيعيا في زمن يسير دائما في الاتجاه المعاكس.
أتمنى أن أجلس مع شخص يرى أنه موجود في مكانه المناسب، وأن من حوله يدركون قيمته، وأنه يمكن أن يقدم من خلال موقعه في المنزل أو في العمل أو في أي مكان على وجه الأرض، أفضل ما يمكنه أن يقدمه في حياته، ولو عاش ضعف عمره مرتين. يبدو مثل هذا الشخص عملة نادرة الوجود في وقتنا هذا!
في أوقات كثيرة أشعر أنني أحتاج بالفعل أن أجلس مع كائنات بشرية.. كائنات تدرك بشريتها، ولا تظن أنها موجودة بين البشر خطأ، لأنها ملاك..
لكن متواضع.. بالمعنى الذي يفهمونه للتواضع بالطبع، أي ذاك الشخص الذي لا يجد مفرا من أن يكون متواضعا، لأنه لا يجد من ينفخ في بالونة روحه ـ المفرغة أساسا ـ هواء لتكبر حجما وتخفّ وزنا أكثر من خفّتها في الواقع، فيضطر إلى أن يلبس قناع التواضع، مع أن التواضع وُجد لأرواح ذات طبيعة مختلفة تماما، لكنه لا يعرفها، ولن يعرفها أبدا في أي وقت.
أحيانا أشعر أن عليّ أن أمشي بحذر بين الناس، كي لا أتسبب في ضرر غير مقصود بكلام ليس له فعل الهواء؛ فالكثيرون حولنا أصبحوا بالونات كبيرة الحجم، وهي مستمرة في الانتفاخ أكثر وأكثر، طالما أنها تجد فما ينفخ فيها هواء يساعدها على ذلك، وهذا يجعلني أشعر وكأنني أعيش في عالم من البالونات «المنفوخة»، ينفخها الكلام الفارغ، الكلام الموظّف لهذا الهدف، إلى أن تصبح غير قادرة على الحركة، لأنها قابلة لأن تنفجر في أي لحظة وبالتالي تنكشف حقيقتها الفارغة أمام من لا يعرف ذلك..
وهذا يجعلها تتحرك أقل، وتعمل أقل، وطبيعي أنها ستنجز أقل، وهي التي لم تكن تتعب نفسها أساسا إلا في التنقل دون هدف من فم لآخر كي يُنفَخ فيها، وكلما كبرت حجما وأصبحت حركتها أكثر محدودية، أصبحت هي بذاتها قبلة للزائرين الذين يواصلون النفخ فيها بكلامهم الفارغ كالهواء، حتى إن كانوا يعرفون أنها فارغة من كل شيء إلا الهواء الذي يبثونه فيها، لكنها تعطي وتكافئ على قدر ما تُملأ هواء!
مثل هؤلاء الناس ـ الذين يكبر حجمهم بالكلام الفارغ ـ يمكن أن يقضي عليهم الكلام أيضا، ولكن ليس أي كلام، بل ذلك الذي يشبه الدبابيس أو الأسنان الحادة جدا، الصريح الذي يمكنه أن يقطع الحديد، فكيف سيكون الحال مع مجرد بالونة!
الكلام سلاح ذو حدّيْن، يمكنه أن يبني، ويمكنه أن يهدم، يمكنه أن يعلو بشخص لأعلى قمة، ويمكنه أن يهبط بآخر لأسفل قاع. وهؤلاء الأشخاص المفرغون إلا من الهواء، يعرفون هذه المعلومة عن سحر الكلام وأثره دون أي معلومة أخرى، لذلك يتجنبون الاحتكاك بمن يمكن أن يستخدم فمه معهم، إلا ليزودهم بالهواء الذي يحتاجونه لكي يحافظوا على بقائهم، ونموّ أحجامهم.
رأينا الكثير من هؤلاء، يجلسون على مقاعد لا تليق بأمثالهم، ويكاد كل واحد منهم يشغل مساحة مكتبه الذي يمتد طولا وعرضا كملعب كرة قدم، ويدخل في منافسة مع مكاتب آخرين من أمثاله، يكاد هو بشخصه أن يملأ المساحة بنفسه، من شدة إحساسه بعظيم دوره وجليل قدره، وكأن أرحام الأمهات لم ولن تنجب مثله أبدا. ولكنهم حين يأتي وقت اختبار أحجامهم الحقيقية، يختبئون خلف أصغر جدار وهم يرتعدون خوفا من أن تنكشف لهم قبل غيرهم حقيقة أمرهم.
لا أعفي أحدا من مسؤولية ما نحن فيه، ولا أستطيع أن ألوم أحدا بعينه أيضا، فالكل مسؤول عن هذا الوضع البالوني الذي نعيشه، الجميع مشتركون في هذا؛ الأسرة والمدرسة والمجتمع والإعلام و..إلخ.
وبعد أن تتفرق المسؤولية بين كل هذه الجهات، كيف يمكننا أن نأخذ بثأر مجتمع أصبح الناس فيه إما ملائكة لم تجد بدًّا من التواضع فتواضعت، أو بالونات تتحرك فوق الناس، ولكنها لا تستطيع أن تعطيهم إلا الهواء الذي ملؤوها به من قبل!
جامعة الإمارات