نميل عادة إلى إسناد الأمور إلى الغيبيات، ونفضل تعليق كل ما يمكن تعليقه على مشجبها بما أن طبيعتها تسمح بذلك، وهذا يدفعنا إلى التمادي أحيانًا في ما نعرف معرفة جيدة أنه يقودنا إلى ما يخالف مصلحتنا أو مصلحة من حولنا.

ليس من السهل أن يدرك الإنسان أنه يفعل ذلك حقيقة، لكنه يفعله، أي أنه يلقي على الغيبيات أكثر بكثير مما تحتمل، ويتنصل من المسؤولية الشخصية التي قد تثقله بقائمة من الإجراءات الفعلية أو السلوكية أو الفكرية أحيانا.

حتى عندما نمسك ـ صدفة ـ بخيط يكشف لنا أننا نقع في شباك هذا الوهم، لا نلبث أن نُفلته كي لا نصل إلى حقيقة أننا نعيش في مصيدة اعتدنا عليها وألفناها وأصبحت تشكل حياتنا، ليس فقط من الخارج، بل ـ وهذا هو الأهم ـ من أعماق الداخل.

بعضنا لا يتردد في أن يلقي بكل ما يحدث له من خير أو خلافه، على القدَر. ومع أننا جميعا نؤمن بالقضاء والقدر، إلا أن درجة حضوره في وعينا ولا وعينا، وبالتالي سيطرته على تفكيرنا، تتفاوت من شخص لآخر، وهذا يظهر جليا من خلال منطوق بعض الأشخاص الذين يكتفون بالقول إن هذا قضاء وقدر، أو لن يحدث إلا ما هو مقدر، وما شابه ذلك، دون أن يدركوا أنهم يخبئون تقصيرهم الذاتي خلف ستار القدر.

البعض الآخر يتجه وجهة أخرى، وهي وجهة الحسد و»العَيْن«، وأقصد بالعيْن السوء الذي قد يمسّ إنسانًا ويكون بسبب كلمة أو نظرة أو حتى إحساس في بعض الأحيان صادر من شخص آخر، سواء كان يقصد السوء أو لا يقصده، وسواء كان يحبه أو لا يحبه.

وهي موجودة في الأثر، وقد قال عنها النبي الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ «العَيْن حق»، وتوجد نصوص من القرآن والسنة والأدعية الصالحة ليرقي الإنسان نفسه بها من العين.

كل هذا طبيعي ولا نختلف حوله، إنما ما نختلف حوله هو أن تتحول هذه «الحقيقة» الطارئة أو العارضة، إلى أصل في حياة بعض الأشخاص، بحيث لا يحدث أي شيء لهم إلا ويرجعونه إلى «العين»، والعارض في حياتهم هو أن تمر الأيام دون أن يؤَوَّل أي حدث من أحداثها بأنه «عين فلانة أو علانة»!

هناك أشخاص آخرون يذهبون إلى اتجاه آخر، فيعتقدون بأن أرواحًا «شريرة» هي التي تتسبب في ما يحدث لهم، فيكون الشخص الفاشل مثلا ـ ربما نتيجة تقصيره في دراسته، أو عمله، أو تجاه أسرته ـ كمن تسكنه روح شريرة وتسيطر عليه وتجعله غير موفق في حياته، وهذا يشبه إلى حد ما «المسّ» الذي يصيب الإنسان.

وكثيرًا ما نصف شخصا طبيعيا في الأصل، ولكنه مقصر ذاتيًا، أو غير موفق لأي سبب من الأسباب، وهو مع ذلك عصبي إلى أقصى حد ويصعب الحديث معه، بأنه «ممسوس» باللهجة الدارجة، وهذا قد يكون صحيحًا أحيانًا، لكن ليس دائما.

وما يحدث عند بعض الناس هو أنهم يلتمسون الأعذار لمثل هؤلاء، إلى الدرجة التي تسمح لهم بأن يطلقوا عليهم هذه الصفة، كي يبرروا ما يحدث لهم، ثم تتحول إلى اعتقاد راسخ لديهم ولدى أولئك الأشخاص الذين يبدأون رحلة «علاج» للتخلص من هذا «المسّ» الوهمي، بدلا من تركيز الجهد وبذل الوقت والمال للتخلص من أسباب الفشل الحقيقية، وتحويل الفشل إلى نجاح.

ومن أشكال الاتكال على الغيبيات أيضا الاعتقاد المفرط بالسحر، ولا أعني اللجوء له، إنما تأويل كل حدث سيئ بأنه نتيجة سحر، وأن الشخص مسحور، والأسرة مسحورة، والمنزل مسحور، وكل شيء يخصنا مسحور، وغالبا ما يكون الكلام شكًا أكثر منه يقينا.

وفي مثل هذه الحالات كثيرا ما يقع الإنسان في الوهم، لأنه قد يُوفَّق وقد لا يُوفَّق في العثور على الشخص المناسب الذي يقطع شكه باليقين، وغالبا ما يقع مثل هؤلاء فريسة للمحتالين والدجالين، الذين يستغلون سذاجتهم لابتزازهم والحصول منهم على ما يريدون، وهم بدورهم ـ أقصد الدجالين ـ يغرسونهم في أرضية الوهم التي يعيشون فيها أكثر فأكثر، كي يحافظوا على مصدر رزق ثابت لهم.

لم تستنفد كل أشكال التعليق على مشجب الغيبيات بالتأكيد، لكن هذه هي أكثر الأشكال شيوعا، ولا أقصد أن أنفي أي شكل مما تحدثت عنه، ولا أدعي أنها وهم، أو أنها غير موجودة في حياتنا، لكن الوهم الذي أقصده هو الانسياق لها.

وتغييب الأسباب الواقعية التي تتسبب في حدوث ما لا نرغب فيه، بدلا من البحث عنها والسعي لمعرفتها وكشفها بكل تفاصيلها، حتى نتخلص منها وتصبح حياتنا الأسرية أو العملية أكثر نجاحا واستقرارا، بدلا من الغوص في عوالم قد نكون أبعد الناس عنها، ولكننا نقربها من أنفسنا بأنفسنا.

جامعة الإمارات

tma.albraiki@gmail.com