تقول إحدى الروايات التاريخية أن المهلهل بن ربيعة كان في جلسة سكر مع ابن عمه همام بن مرة، حين بلغه نبأ قتل أخيه الملك كليب على يد جساس.. أخذ المهلهل يهذي غير مصدق أن كليبا يقتل ببساطة هكذا، وهو الذي لم يكن يلتفت إلى اقل من أربعين فارسا، ثم أخذته سِنة من النوم.. فلم يكن من أبناء همام إلا أن هموا بقتله قائلين.. دعنا نقتله يا أبانا وهو نائم.. قبل أن يصحو فيفنينا جميعا.

بنفس المنطق يتعامل أعداء مصر معها.. يتحينون لحظات سكرها ونومها، كي يسددوا إلى نحرها ضربة قاتلة.. خوفا من أن يستيقظ المارد يوما.. فيسد فراغ القوة ويعيد الخرائط إلى أصلها.

قصة جنوب السودان مثال حي.. فالعملاق المصري الذي يعيش لحظة تغييب، بفعل عوامل كثيرة، فتح عينيه تحت تأثير المخدر، ليجد أن واقعا جديدا ترتسم ملامحه في مجاله الحيوي.. واقع يهدد أعز ما تملك مصر.. نهر النيل. على امتداد عقود، كانت إسرائيل وأميركا هناك.. في جنوب الوادي تدرب ميليشيات وتوفر لها العدة والعتاد، وترعى قادتها سياسيا ومعنويا، انتظارا لليوم الذي يبدو آتيا لا محالة في 9 يناير المقبل.. رجل وحيد كان يعي ما يحدث.. يأخذ المساعدات بيد، وباليد الأخرى يحاول انتزاع حقوق كرس غيابها الاستعمار، واعتبرتها حكومات الخرطوم المتعاقبة ارثاً يجب أن تبقيه.. أما عقل الرجل فقد كان في اتجاه آخر، إذ لا يرى وطنه ذلك المحاصر وراء أقاليم جنوب السودان، وإنما وطن متسع من جوبا إلى الإسكندرية.

كان جون قرنق نعمة ونقمة في الوقت نفسه.. أزال مخاوف مصر بتوجهاته وأفكاره الوحدوية.. ودفع القاهرة إلى أن تغرق في سبات عميق، مطمئنة أن ما يجري من خلاف لن يهدد مصالحها العليا.. وفي لحظة تم التخلص من قرنق.. ببساطة لأنه العائق في طريق أن يتحول الجنوب إلى دولة تضع قدمها على مسار النهر.

تقول رشا رمزي الباحثة في الشؤون الإفريقية، إن هناك فهما مغلوطا ساد في القاهرة.. فالجميع انشغل بالتحركات الأخيرة لدول المنبع، وترك الكارثة.. فدول المنبع لا تملك من الناحية الواقعية التأثير على حصة من المياه.. المشكلة الحقيقية في الكيان الذي تتشكل ملامحه الآن.. جنوب السودان، إذ أنه بمثابة عنق الزجاجة الذي تمكنه الجغرافيا من أن يحبس الماء أو يطلقه.

هناك شواهد كثيرة على أن استقلال الجنوب ونشوء دولة فيه، هو أكبر خطر يهدد المصالح الاستراتيجية العليا لمصر على امتداد قرن بأكمله، خاصة إذا نشأ فيه كيان يمد حبال الود مع الجهات التي دربت ورعت بدأب وإصرار وعلى امتداد عقود، آملة أن يأتي يوم تحرم فيه مصر من أعز ثرواتها. كل شيء تفقده مصر يمكن أن يتم تعويضه، إلا الماء.. فمصر هبة النيل حقا وصدقا، على النحو الذي أدركه المؤرخ اليوناني الشهير هيرودت منذ 35 قرنا.. والخطر الذي يأتي من الجنوب أشد فتكا من ذلك الآتي من الشرق.. وليس إلا استكمالا لحلقاته. بالطبع لا يمكن لأحد أن يجزم أن جنوب السودان سيكون عدوا حتميا، فأهل الجنوب الطيبون يعرفون قدر مصر.. لكن السياسة لا تعترف بأقدار أحد.. تعرف بالمصالح وحدها.. وكثيرا ما استخدمت دول كأدوات.. وكثيرا ما ارتكبت جرائم باسم الحرية.

مصر حائرة لا تدري ماذا تفعل وكيف تفعل؟ وهي تجد أن ابسط قواعد معالجة النزاعات الإفريقية، هو عدم سماح المجتمع الدولي بنشوء كيانات جديدة.. لكن حين يتعلق الأمر بالكيد لمصر يتم كسر كل القواعد.. ولأن الخطر محدق، يستدعي الذهن حالة مصر عبد الناصر ليطبقها على الواقع الحالي.. هل كان المارد المصري سيقف صامتا متفرجا أم كان سيغضب ويتحرك ويمنع ما يجري ولو بالقوة المسلحة؟ فالجيوش لا تنشأ إلا لحماية المصالح الاستراتيجية العليا أينما كانت.. أما حراسة الحدود فشيء هين، يمكن للمتطوعين أن ينوبوا فيه عن أهل البلد.

فمن مبلغ الحيين أن مهلهلا.. أضحى قتيلا في الفلاة مُجندلاَ.

magdishendi@hotmail.com