لا بد أن يستوقفنا الموت «عنوةً»، أو يقف على عتبات تفكيرنا، ثم يدخل دون أن ينتظر حتى نأذن له، إن تأخرنا في الانتباه إلى أنه موجود.. قريب.. وأقرب بكثير مما نظن أو نشعر. وحين يقترب يذكرنا بنفسه..
يدفعنا للتفكير فيه.. ويفرض علينا الانشغال به.. ولو آنيًّا، إلى أن يذهب فقط، انشغال هو أقرب إلى أن يكون شكلا من أشكال المجاملة التي في غير موضعها، أو هكذا أراها شخصيا، لأن الأصل ـ كما أرى أيضاً ـ أن نستحضر «الموت» دائما، وإلا نغفل عن مصيرنا إليه.. ومنه إلى حياة أخرى بحسب ثقافتنا الإسلامية بالطبع.
ليس مطلوبًا أن ننغص صفو أيامنا أو نكدر لحظات فرحنا، بتذكر الموت في كل حين ومناسبة، لكن من المحبذ ألا يغفل المرء عنه تماما، حتى لا يحين وقت رحيله عن هذه الدار إلى غيرها، دون أن يتزود بما يكفيه لأن يحيا حياته الآخرة كما يتمنى.
حين يحضر الموت.. أو يقترب.. لا نملك أن نوقف سيل الأسئلة الذي يندفع دون أن نعرف مصدره.. ربما كثير من تلك الأسئلة عشوائية، أو غير مترابطة، أو ليست متصلة ببعضها على نحو منطقي، لكنها بشكل أو بآخر تدور في جوهرها حول محور واحد، وهو جدوى هذه الحياة..
جدوى تكوين الأسر وإنجاب الأبناء، إن كانوا سيفقدوننا أو كنا سنفقدهم في لحظة دون أن نتمكن من توديعهم حتى.. جدوى السعي نحو الأعلى والأفضل في الدراسة والعمل والإبداع وغيرها.. جدوى التفكير في مستقبل سعيد ومشرق، إن كان من الممكن أن يُبنى ذلك المستقبل لكننا نغادر هذه الحياة قبل أن نسكنه ونتمتع به..!
نفكر أيضا.. حين يحضر الموت.. في فجائية الموت، في مباغتته لنا، في أوقات لا نتوقعها! ولكن: متى كنا نتوقع الموت؟ أو متى من الممكن أن نتوقعه؟ إننا لا نتوقعه حتى حين نجد قريبا يصارع المرض أمامنا لسنوات، ومع ذلك نحمله من مستشفى إلى آخر.
لأننا دائما نفكر في شفائه، وأنه سيبقى بيننا ولن يغادرنا.. وحين يحين أجله نُراع ونتفاجأ، وكأن الموت دائما احتمال بعيد، أو هو الاحتمال الأبعد..
أعود لفجائيته.. لمَ إذاً يفاجئنا الموت دائما؟ مع أننا نعلم أنه قريب، وحاضر دائما، ومع ذلك نفاجأ حين يعلن حضوره ونفقد شخصا عزيزا..
إذا كنا نستحضره بين الحين والآخر ونذكّر بعضنا به فلن نفاجأ بالقدر نفسه، وسنكون أكثر تسليما، لكننا لا نستحضره، وحين يأتي ذكره عرَضًا في أي حديث نجد أنفسنا غيرنا مجراه تلقائيا، دون أن نشعر، سواء ضمنًا أو تصريحًا بأن يطلب أحدنا تغيير الموضوع.
إننا نبعده عن كلامنا وتفكيرنا، ونظن أنه يبتعد بذلك عن حياتنا وواقعنا، وهو في الحقيقة موجود دائما.. يمكن أن نقول إننا نتصرف تصرفّا «نعاميّا» إلى حد ما، لكن هذا ما يفعله معظمنا.
أفكر أيضاً حين يحضر الموت ويقترب: هل كنا سنكون أكثر ارتياحًا لو كان كل واحد منا يعلم متى يحين أجله؟
لا أتخيل ذلك، لكن هذا يخطر في ذهني حين أرى شخصا أفنى عمره وهو يجمع المال، دون أن يتمتع بما جمعه في أي لحظة «تُذكر» من لحظات عمره الذي طال، لكنه انتهى قبل أن يصرف هو شخصيا جزءًا مما قضى السنوات الطوال في جمعه، منتظرًا ـ ربما ـ أن يصل إلى رقم موجود في ذهنه ثم يأذن لنفسه بالاستمتاع بما جمع!!
يسبقه الموت، ويؤول مصيره إلى قطعة بيضاء تُشترى ـ من ماله ـ بثمن زهيد، مقارنة بالباقي الذي يتركه لورثة قد يرفعون له الأيادي بالدعاء وقد تنسيهم الأيام والأموال ذلك..
لا بد أن شتات الأفكار هذا وغيره، مع اختلاف في بعض التفاصيل، قد مرّ على أذهان كثيرة، في مواقف كان «الموت» هو السيد فيها، ومن حسن الحظ أنه يتلاشى ويجرجر سذاجته معه، تلك السذاجة التي لا نكتشفها إلا حين يبعد ظل الموت قليلا، أو نظنه كذلك.
ربما نحتاج للوصول إلى معادلة نفسية تساعدنا على التعايش مع هذا القريب البعيد، الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد، لأننا إذا استسلمنا لإحساسنا بلا جدوى هذه الحياة كلما نقصنا فردا أو اثنين أو أكثر.
سنصبح عالة على أنفسنا وعبئًا على من حولنا، على المستوى النفسي. كما سنحتاج ـ بين الحين والآخر ـ أن نذكر أنفسنا بأننا هنا ـ فوق سطح الأرض وليس تحتها ـ كي نحيا الحياة بكل ما تعنيه الكلمة.
لذلك من المستحسن أن نتذكر المقولة الشائعة «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا»، لكن لا يجب أن ننسى أيضاً أن لها تتمة، وهي التي يغفلها كثير من الناس: ينسونها، أو يتناسونها، «واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».
جامعة الإمارات
sunono@yahoo.com