فتحتُ بريدي الإلكتروني فوجدت رسالة تدعو إلى التوبة من الذنوب، وفي مقدمة الرسالة، أقسم كاتبها بأن إكمال قراءتها سيدفعك للتوبة لا محالة. لم أكد أكمل نصف الرسالة حتى مسحتها من بريدي، حيث كانت عبارة عن مجموعة صور لدفن ميت في قبره تحمل كافة تفاصيل الدفن. أصابتني تلك الرسالة بالاشمئزاز، ليس لأنني رأيت ميتاً يدفن، فلقد دفنت أحباء وأعزاء كثر من قبل، ولكن لأسلوب الرسالة التي يدّعي صاحبها بأنه يبتغي الأجر عند الله، عن طريق حض الناس على التوبة.
بعد أن أغلقت البريد، أصبت بالإحباط لأنها طريقة مقززة للدعوة، إن صح تسمية هذا العمل بدعوة، فهو استغلال لعواطف الناس، واستنزاف لمشاعرهم الإنسانية عن طريق صدمها بهذه المناظر الكئيبة. لم تكن تلك رسالة إلى التوبة، بل رسالة إلى التحطيم واليأس. فبعض الناس، كمرسل الرسالة، لا يستسيغ رؤية من حوله ناجحين في حياتهم، ومنسجمين في تحقيق أحلامهم وطموحاتهم بالتي هي أحسن، فيسعى إلى وضع حد لعطائهم المتدفق عن طريق تذكيرهم بالموت بطريقة فجّة، وكأنه يقول لهم «لا تغتروا بتطوير أنفسكم، ولا تفتتنوا بتنمية مجتمعاتكم، فكلكم ميتون في النهاية. توقفوا الآن وتوبوا وابكوا على حالكم، علّكم تدخلون الجنة».
ينظر دعاة الموت هؤلاء إلى أنفسهم على أنهم مصلحون في المجتمع، وما هم إلا معاول هدم، وآلات مدمّرة ومقوّضة لمقومات النهضة. فلا شيء أخطر على المجتمع من إنسان يكره ذاته، ويكره الإنسان ذاته عندما يتخلى عن حلمه. إن سلب أحلام الناس أشد دماراً من سلب أرواحهم، فالعقول التي تخلو من أحلام، أتعس من الأجساد التي تخلو من أرواح.
هناك خطاب قديم جديد بدأ يعلو صوته في المنطقة مؤخراً، يصوّر تاريخنا الإسلامي بصورة كئيبة، وكأن المسلمين القدماء لم يكن لديهم شيء غير الجهاد والبكاء. فأستغرب من كثرة الروايات التي تُروى عن بعض الخلفاء والأمراء المسلمين الذين كانوا يبكون على كل شيء، حتى تبتل لحاهم، أو حتى يُبكون كل من كان في المجلس. فلا يكاد يسمع أحد هؤلاء الملوك، الذين كثرت في زمنهم الاختراعات وازدهر العلم والأدب، أن يسمع نصيحة عالم أو فقيه حتى يبكي على الفور!
كما يصوّر أصحاب هذا الخطاب، الله عزّ وجلّ، في خطبهم ومحاضراتهم، وكأنه غاضب من كل شيء ويتربص بعباده زلة واحدة ليلقي بهم في جهنم، وهو تعالى يقول عن نفسه (كتب على نفسه الرحمة). يذكر الطبري في تفسير هذه الآية «قضى أنه بعباده رحيم، لا يعجّل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة». ثم أردف في سياق التفسير، حديث أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم «لما فرغ الله من الخلق كتب كتابا (إن رحمتي سبقت غضبي)».
وعلى رغم هذا الكلام، يُشعرنا دعاة الموت هؤلاء، وهم كثر، في التويتر وفي الفيسبوك وفي كل مكان يستطيعون الوصول إليه، أن أقل غلطة نرتكبها ستؤدي بنا إلى الجحيم، وأن أقل تساؤل يخطر على بال المرء حول بعض مفاهيم الحياة أو حول تعاليم الدين، هو دليل على شكّ السائل، وعلى عدم تيقّنه من دينه وربّه، مما يعطّل التفكير، ويصيب الاجتهاد بشلل نصفي، خوفاً من طيور أبابيل التي تحلّق فوق رؤوس العباد. لقد ضاق المجتمع بهذه المفاهيم المرعبة، وعلينا ألا نلوم شباب وفتيات الجيل الجديد إذا نفروا من الدين، فهم ليسوا سيئين، ولكنهم مُرتبكون وضائقة صدورهم بحديث الترهيب الذي يباغتهم في الإنترنت، وفي المسجد، وفي التلفاز، وفي الإذاعة، وفي الكتب. إن فرض طوق من المحرّمات على المجتمع لن يجعل الناس أكثر صلاحاً، ولن يجعلهم أكثر التزاماً بتأدية واجباتهم الدينية، بل ستدفع بهم فطرتهم البشرية إلى السعي لكسره واكتشاف ما ورائه، فالإنسان بطبيعته يحب الاحتواء، ويكره التحذير المتكرر والنصيحة اللا منقطعة.
إن من يكثر من النصيحة إنما يسيء إلى نفسه وإلى مجتمعه، فمعطي النصيحة يجب أن تتوافر فيه شروط كثيرة، أولها العلم، وثانيها الأخلاق، وثالثها الحكمة، ورابعها اللطف. يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة): «نزلت الآية بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف».
لقد صوّر أصحاب هذا الخطاب، الدنيا على أنها دار فتن وشرور، وعلينا أن نقضي حياتنا، في خوف من الانصياع إلى شهواتها، وفي رغبة دائمة في الرحيل عنها. ولكي نصل إلى هذه الحالة البائسة، فإنه علينا أن نستمع إلى قصص عذابات القبور، وعلينا أن نشاهد صور الموتى، وعلينا أن نبكي على حالنا كلما سنحت لنا الفرصة لأننا أقرب إلى الجحيم من النعيم.
ولنترك العالم المتحضر يخترع، ويبحث، ويُعلّم، ويكتب، ويتنافس في العلوم الحديثة، ويتسابق في إيجاد علاجات للأمراض الخبيثة، فهذه كلها من فتن الدنيا، وهؤلاء كلهم سيدخلون النار لأن الدنيا هي دار سعادتهم، ولذلك هم يعمّرونها. أما نحن، فإننا بخوفنا، وبكائنا، ويأسنا، وتخاذلنا سندخل الجنة، حتى لو لوّثنا البيئة، وهدرنا خيرات البشرية، وظلمنا إخواننا في العمل، وغششنا في الامتحانات، وكذبنا على أصدقائنا، وأهملنا القيام بأعمالنا في مؤسساتنا، وأسأنا معاملة المراجعين، ولو فعلنا كل هذا ومثله ضعفين، فإننا سندخل الجنة رغماً عن البشرية، لأننا كنا خير أمة أخرجت للناس!
أستغرب عندما يتحدث هؤلاء القبوريون الجدد عن إضاءة الشموع في بعض خطبهم. فما فائدة الشموع التي توضع في القبور! الشموع لا تضيء المدن، بل تحيلها إلى قرى أشباح، والشموع التي تُضاء في الأكواخ لن تُحيلها قصوراً، بل قد تزيد الشموع من كآبة بعض الأماكن وتزيد عتمتها. تكاد الشحنات السلبية، المنبعثة من أفواه دعاة الموت المتشائمين، أن تصيبنا بالعجز التام، وتفقدنا الأمل في غد مشرق. فأعجَزُ الناس المتشائمون، وأقلّهم حظاً أقلّهم أملاً. يا أصدقائي، نحن لسنا في حاجة إلى شموع، ولكننا في حاجة إلى من يُشعلها.