عوداً على بدء القضية، التي اتفق سابقا على أنها «المركزية» في الشرق الأوسط، قبل أن يغرق شرق المتوسط بما لا يعد من الحروب والنزاعات التي يتعذر معها تبيان الغث من الغيث.

لم تعد القضية الفلسطينية هي المحرك لمسار الأحداث والوعي العام في المنطقة، بعدما تشوشت كل المنظومات والنظريات والتحليلات، إزاء تقدم دماء جديدة إلى واجهة الشاشات من الطحن الجزائري الداخلي إلى النزاع مع المغرب على «الساقية الحمراء ووادي الذهب»، ثم ليبيا والقصف الأميركي .

وما تلاه من نزاع مع تشاد، ثم اضطجاع السودان على مرجل انفصال الجنوب عن الشمال قبالة حنفية النفط المتحفزة، مرورا نحو الشرق وانتثار لبنان إلى مذاهب بعد الطوائف واحتراف وضع الإصبع على الزناد لإطلاق الرصاص أيا كان الاتجاه، ثم إعادة العراق إلى ما قبل نشوء الدولة وحتى ما قبل تبلور المفاهيم الجيوسياسية، مرورا بتنامي الدور الإيراني في المنطقة على حساب الدور المصري، مع إطلالة خجولة لكن مدروسة للتاريخ العثماني مرتديا حلة ملونة بالإسلام المستنير والعلمانية الأتاتوركية.

وجنوبا نحو اليمن السعيد المكلوم بجرف تاريخي بين جناحي الوطن، ثم نحو أقصى الشرق، حيث القنابل النووية الموقوتة بين الهند وباكستان، وما يجاورهما من مجازر توزع بالتجزئة على أيام أفغانستان.

كل هذا لا يمكن أن يجانب مركزية القضية الفلسطينية، ودفعها إلى ما وراء الكاميرا أحيانا، ومشاعر محايدة ملت ذات المشهد الدموي غالبا.

لكن كما أن لـ «الحقيقة وجهان»، فان المركزية تعني مسارا واحدا وتكثيف الحركة على هذا المسار بعد وضوح الرؤية والخطط والاستراتيجية، لأن عكس المركزية هو التشتت أو التفتت بين المسارات والمسارب والاستراتيجيات.

هذا بالضبط هو ما كان العامل المهيمن في تراجع مكانة القضية الفلسطينية في وجدان الشرق الأوسط. منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة،كانت الاجتهادات «الثورية» تنبت وتقطف داخل إطار منظمة التحرير، حاملة القواسم الكبرى والاستراتيجية الواحدة والهدف الواحد الخاص بتحرير فلسطين، رغم الالتباس البسيط بين سبل انجاز الهدف بين «المرحلية» و«الاستراتيجية».

بيد أن حال الوضع الفلسطيني راهنا عاد إلى ما قبل البدء: صراع على التمثيل بين منظمة تحرير عتيقة وحركة «حماس» الإسلامية النابتة حديثا من حقل جماعة «الأخوان المسلمين» .

ولكم كانت الصورة أوضح لو أن الصراع كان بين استراتيجيتين، بل نزاع على السلطة بين نهج وآخر مستنسخ منه بعد استعداد «حماس» لقبول دولة فلسطينية على المناطق التي احتلت عام 1967.

صاحب هذا الحال، نشوء قوى إقليمية ودولية جديدة تداخلت مصلحيا مع القضية الفلسطينية، غطاء أو أداة، حتى وصل غباش الصورة إلى عدم التمييز بين البعد الوطني والتحالف الخارجي، أو لكأن الحق التاريخي للفلسطينيين في أرضهم وتقرير مصيرهم بات رهنا للتصويت في عواصم إقليمية ودولية، وبات شعار «القرار الفلسطيني المستقل» ومئات الآلاف الذين قضوا حلما به، لا يعدو أكثر من تعويذة لاستجلاب المساعدات.

عندما يصل شعب إلى مرحلة عدم وعي مصلحته وإضاعة خريطة شعابه على مفترقات طرق خارجية تمتص أقدامه بطيئا، فهل من السهل على الفلسطيني تحديد من هو العدو، ومن هو الصديق المحتملين؟!

Adonis02@hotmail.com