في الواقع كنت في صدد إعداد لمحاضرة حول السياسة الخارجية لدولة الإمارات في فترة السبعينيات، طبعاً تلك الفترة تعتبر فترة حرجة جداً في عمر الدولة الاتحادية، باعتبارها فترة التأسيس، وينبع الحرج من مستوى التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي كانت تحيط بالاتحاد وتهدد كيانه.
وبينما كنت أقلب في المصادر والوثائق وقعت عيني على كتاب «حديث الذاكرة» لمؤلفه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، كانت إحدى الصديقات العزيزات قد أحضرته معها من معرض الشارقة الدولي للكتاب، ولن أخفيكم سراً مدى سعادتي وأنا أقلب بين صفحاته القيمة، وأنتقل من عنوان إلى آخر ومن فصل إلى الفصل الذي يليه، تلهفاً لقراءة ما ورد فيه من سرد لحقائق توثق لمرحلة مهمة من تاريخ اتحاد دول الإمارات العربية المتحدة.
لقد كانت الوثائق، وخاصة البريطانية مصدراً مهماً لدراسة تاريخ الإمارات خاصة قبل قيام الاتحاد، وتكمن أهميتها لاعتبار الفترة الزمنية الطويلة التي وجدت فيها بريطانيا في المنطقة، حيث استمر هذا الوجود وبدون انقطاع من عام 1622 وحتى عام 1971.
واستطاعت بريطانيا من خلالها القيام بتدوين كم هائل من المعلومات عن أخبار وأحوال الإمارات الداخلية، إما بواسطة موظفيها سواء في الوكالات التي قامت بتأسيسها كوكالة الشارقة، أو من خلال المراسلات التي كانت تتم بين المسؤولين البريطانيين وشيوخ المنطقة؛ وقد نشرت معظم هذه الوثائق تحت مجموعات عدة منها أرشيف الإمارات ودليل لوريمر وتقارير المسؤولين البريطانيين في بوشهر ومسقط والبحرين.
في الواقع تعد هذه الوثائق مراجع تاريخية رئيسية ومهمة للمنطقة باعتبارها المصادر الرئيسية والأولية عن المنطقة،
إلا أنه ومنذ قيام الدولة الاتحادية ظلت معظم مجريات الأحداث خلف الكواليس ولم يظهر منها إلا النزر القليل، لذلك فإن كتاب «حديث الذاكرة» جاء ليضفي على تاريخ الاتحاد عملاً لطالما انتظرته الأوساط البحثية.
إنه بحق وثيقة توثق تاريخ الاتحاد من شخص عاصر فترة التأسيس وكان حاضراً ومعاصراً للكثير من معطياتها، فجاء الكتاب زاخراً بتوثيق العديد من الأحداث المهمة، حيث جاء ليكشف عن مجموعة كبيرة من القضايا الرئيسية مثل العلاقات الإماراتية الإيرانية في عهد الشاه وقبل قيام الثورة الإيرانية، ودور صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الفعال في توطيد تلك العلاقة، خاصة بين المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وشاه إيران محمد رضا بهلوي.
كما يكشف الكتاب تفاصيل عديدة عن بعد العلاقات العربية الإماراتية ودور الشارقة على وجه التحديد في تفعيل تلك العلاقات بما حمل الخير الكثير في دعم مسيرة الاتحاد، كما لفت نظري في الكتاب قوة الاتحاد في بدايات تأسيسه الأولى، فيخيّل لك وأنت تقرأ تفاصيل الاتحاد المتمثلة في اجتماعات المجلس الأعلى والزيارات العديدة التي تتم بين حكام الإمارات، وأدق التفاصيل الذي يتم حولها التشاور والاتفاق.
بأن دولة الإمارات دولة موحدة مركبة وليست دولة فيدرالية، ففعلاً الكتاب جاء في وقته والإمارات تحتفل بعيدها التاسع والثلاثين، جاء لينعش الحقائق حول أهمية الحفاظ على المكتسبات الاتحادية، كما جاء ليدعم الأصوات التي تنادي بأعلى صوتها بضرورة تفعيل الاتحاد وتقويته على حساب المحليات، لتظل الإمارات التجربة الوحدوية الرائدة في المنطقة العربية باعتبارها أول تجربة اتحادية يكتب لها النجاح والاستمرار.
إن تاريخ الإمارات بحاجة إلى مثل هذه الأعمال التاريخية الضخمة التي تؤرخ لفترات الاتحاد المختلفة وتوضح حجم التضحيات التي قدمها الآباء المؤسسون لدولة الإمارات العربية المتحدة، والدور الكبير الذي بذلوه في سبيل إنجاح مشروع الاتحاد.
لا شك أبداً أنها أدوار مشرفة، ولكن أدوارهم تلك بحاجة إلى أحاديث ذاكرة أخرى تجسد أعمالهم، خاصة من قبل أولئك الأشخاص الذين عاشوا تلك الفترة وعاصروا رموزها وأحداثها.
فما أحوج تاريخ الإمارات إلى أعمال بحجم «حديث الذاكرة» الذي وبعد أيام قصيرة من عرضه في معرض الشارقة الدولي للكتاب نفدت كمياته، وخاصة أنه كتب بواسطة رجل وحاكم إمارة عاصر بنفسه تلك الأحداث.
في الواقع يفتح هذا الإصدار الباب على مصراعيه في ضرورة تدوين الرواية الشفهية، سواء تلك الرسمية أو الاجتماعية، وجعل مثل هذا المشروع هدفا رئيسيا في أجندة المراكز البحثية الوثائقية في الدولة، خاصة أن هناك العديد الأشخاص الذين عاصروا وشاهدوا، بل وبذلوا أيضاً الكثير من الجهد المشهود له في تحقيق الخير والنماء للدولة، سواء على الصعيد الاتحادي أو الصعيد المحلي للإمارات الأعضاء في الاتحاد.
وأياً ما كان الحديث، فإن حديث الذاكرة هو الحديث الذي ملأ الشارع الثقافي المحلي، ونأمل أن يكون هو الحديث الذي سيفتح المجال لأحاديث أخرى حول ذاكرة دولة الإمارات.
كاتبة إماراتية