لأن مصر هي الثقل البشري الأكبر في العالم العربي فإن رهانات المستقبل تظل معلقة بها مهما ذبل دورها، في السياسة كما في الاقتصاد والثقافة والفن والصحافة، فما هو كائن اليوم يمكن أن يتغير غدا، والأدوار التي تخلت عنها القاهرة طوعا أو لحسابات داخلية أو بمقتضى رغبة خارجية لن يجادلها أحد كثيرا إذا ما عادت إليها، فحتى أولئك الذين أسعدهم الغياب المصري عن دور الفاعل الإقليمي يحسون في قرارة انفسهم أن هناك شيئا ما ناقص في المعادلة.
بالطبع تأثرت الصحافة بالانزواء السياسي، فلم تعد تمنح الشأن العربي ما كان له على صفحاتها، فبادلها القارئ العربي ضعف الاهتمام، وأبرز مثال على ذلك من الصحافة المتلفزة ويتمثل بحدة في قناة الجزيرة القطرية، إذ إنها احتلت المرتبة الأولى عربيا، وكانت أولى مسوغات صعودها غيبة الإعلام المصري، ولذلك فحين دبت النشوة فيه عاد وسحب البساط بشكل جزئي من تحت أقدام الجزيرة عبر البرامج التوك شو..
لكن النقص الإخباري وغياب التغطية السريعة للقنوات الأخرى وعرض وجهات النظر المتباينة أبقتها في المقدمة. نفس الشيء حدث في الإعلام الإلكتروني، ففضاء الشبكة العنكبوتية الفسيح ظل مهملا في مصر، وساحة خالية لإيلاف والجزيرة نت والعربية نت وبي بي سي العربية وسي إن إن العربية، حتى تنبهت الصحف المصرية إلى أن تأثير الصحافة المطبوعة يظل ناقصا مالم تكمله صحافة إلكترونية جادة ونشطة ولديها من المرونة ما يجعلها تتقدم وتجذب اهتمام الباحثين عن الخبر وقت حدوثه..
فأنشأت اليوم السابع والمصري اليوم والدستور مواقع إلكترونية جيدة قادرة على المنافسة، وفي الطريق مواقع أخرى تستعد للانطلاق ابرزها الوفد ببوابته الجديدة والمشهد الإلكتروني.
هذه الحركة الدائبة تعيد ثنائية الصحف المطبوعة والصحف الإلكترونية، فالأولى تمثل عادة لشريحة واسعة من القراء وترتبط بطقوس معينة ولا يزال الجيل القديم يعتبرها أكثر تأثيرا عليه، أما الثانية فترتبط بعادات الجيل الجديد الذي أصبح يعتبر الورق (بما يحويه) من مخلفات الماضي.. وأن الحياة اسهل كثيرا حينما يتم اختصار كل الوسائل الإعلامية في وسيلة واحدة يمكن من خلالها مشاهدة قنوات التليفزيون وقراءة الصحف وسماع محطات الراديو..
لدرجة أن بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت توقع أن تختفي الصحف المطبوعة والقنوات الفضائية في غضون عشر سنوات وان يحل جهاز واحد محل كل شيء.. وأن هذا هو التحدي الذي تخوضه شركته. في عالمنا العربي ربما يستغرق الأمر وقتا أطول في التحول، فهناك شرائح واسعة لاتزال تعاني من الأمية الألف بائية..
فما بالنا بالأمية الإلكترونية. أيا ما كانت نتيجة الجدل حول الصحافة بجناحيها المطبوع والإلكتروني، فإن هناك إجماعاً على أنهما مكملان لبعضهما على الأقل في العشرية المقبلة، ومن ثم فإن الجميع يمسكون بالعصا من المنتصف. تبقى نقطة تمويل الصحف بأنواعها، فالصحافة أصبحت صناعة تحتاج تكاليف ضخمة، وهناك أموال ساخنة تتدفق من جهات دولية لصياغة صحافة تناسب هواها وتخوض معاركها.. وجهات محلية تعتبر الاستثمار في الصحافة مضيعة للمال..
وهناك معلنون يعتبرون إعلاناتهم منة على وسائل الإعلام أو وسيلة لاتقاء شرور الكشف عما لا تريد شركاتهم الإفصاح عنه.. وهناك في النهاية قارئ لا يشغل نفسه كثيرا بملابسات التمويل ولا مصادره.. فالأهم بالنسبة له هو من يجعله على اطلاع بما يجري لحظة حدوثه أو في أسرع وقت ممكن.
ولذلك فإن نجاح صحافة مستقلة بحق تعكس الضمير الوطني المبرأ من كل شبهة يمثل تحدياً ضخماً.. لكن ما يجعله قابلاً للتحقق هو وعي القارئ الذي يستطيع جيدا التمييز بين الوسيلة التي تضعه في أول سلم أولوياتها والوسيلة التي تلوي عنق الحقائق كي تنتج لحنا يريده أولئك الذين يدفعون للزمار.