حري بوزارة التربية والتعليم أن تنتهج خطة طوارئ لاستقطاب وتدريب المعلمين المواطنين ذكوراً وإناثاً، بعد أن أعلنت مراراً وتكراراً أنها تواجه مشكلة في هذا المجال، وأن تشرك في هذه الخطة جهات متعددة، وأهمها مؤسسات الإعلام.
وذلك لأن هذه الأمر مرتبط بشكل مباشر بالأمن الوطني، مثل ما هو مرتبط بقضية تعزيز الثقافة والهوية الوطنية للدولة عند الناشئة. فضلاً عن ذلك، أن عملية توطين وظيفة المعلم يعتبر مطلباً يسعى نحوه كافة المسؤولين والمواطنين الغيورين على بلدهم بالدرجة الأولى.
إن شكوى وزارة التربية من عزوف المعلمين المواطنين عن الالتحاق بمهنة التدريس مسألة غير مقبولة. نظرا لأن هذا العزوف له أسبابه الغير خافية عن العيان ليس بالنسبة للوزارة والعاملين في المجال فقط ولكن للمجتمع ككل.
ومعالجة هذه الأسباب من قبل الوزارة ليس بالأمر المستحيل، فكل ما نحتاج إليه هو التعامل مع هذا الأمر من منطلقات عديدة، أهمها الانطلاق فيه من واقع أنه مفصل هام في تشكيل بناء الدولة وقضية حيوية تحتاج منا جميعا التكاتف من أجل إنجازها بأفضل صورة ووضع الحلول الممكنة لها. إذن حري بنا في هذا السياق أن نبدأ بهذا السؤال الهام: لماذا العزوف عن مهنة التدريس من قبل الشباب، وبخاصة الذكور منهم؟
القراءة الاجتماعية (السيسيولوجية) المبدئية لهذه الإشكالية تقودنا إلى عدة أسباب أولها وأهمها السبب المادي، حيث تعتبر مهنة التدريس اليوم مهنة ذات مردود مادي ضعيف مقارنة بالمهن الأخرى. وفي وقت أصبحت فيه المادة معيارا مهما للعمل وتضاءلت فيه القيمة المعنوية للأشياء تصبح مهنة كالتدريس أقل جاذبية للجيل الشاب من غيرها.
وهذه جزئية لا نستطيع أن ننكر أهميتها ولا أن نعتبرها ثانوية. وذلك نظرا لارتباطها بعلائق كثيرة في الحياة، أهمها سد احتياجات الإنسان، لكننا في الوقت نفسه ندرك أن حل هذه الجزئية ليس بالمستحيل، خاصة إذا انطلقت وزارة التربية من أن هذا الأمر مرتبط بالأمن المجتمعي بشكل وثيق، ولا يمكن تحقيق أهدافنا الوطنية العامة بدونه. فهذه جزئية مرتبطة بأمننا المجتمعي لأنها مسؤولة بشكل كبير عن نوعية المخرجات التعليمية المستقبلية التي ستقود عملية التطور بأشكالها المختلفة.
إن غالبية المسؤولين في دولتنا يدركون قيمة وأهمية التعليم والمعرفة في بناء المجتمعات، وهم كثيرا ما يشيدون بدول أنجزت أهدافها حين جعلت العلم والتعليم في سلم أولوياتها، ولا أعتقد أن حل مثل هذا المشكلة بالأمر العسير عليهم. وهذا الإيمان وحده يجعلنا نغير من القيمة المادية والمعنوية التي نربطها بمهنة التعليم.
الجزئية الأخرى التي يجب أن تعمل عليها وزارة التربية والتعليم هي إعطاء مهنة التعليم قيمة معنوية ومادية. فمهنة التدريس تخلو من البريق الذي تمتلكه الوظائف الأخرى، وهذه النقطة مرتبطة بالجانب المادي بشكل كبير، فلو نأخذ بعين الاعتبار البدلات والامتيازات التي يحصل عليها مدير في مؤسسة ما ونقارنها بالامتيازات التي يحصل عليها مدير المدرسة سوف نجد أن هناك فارقا كبيرا، ولن يكون هناك مجال للمقارنة.
هذا الفارق في الامتيازات يدلل على نقطة جوهرية وهو ان التقدير المجتمعي لمهنة التدريس أقل بكثير من المهن الأخرى، كما أنها تعمل على زرع قيمة دونية لمهنة التدريس والمجهود الذي يبذل فيها. بوعي أو بدون وعي.
أيضا قضية النقص في الكادر التعليمي بالإمكان ابتكار بعض الحلول لها من خلال تصحيح أمور كثيرة في أنظمة العمل في الوزارة، ومنها عدم الاستقرار على رؤية أو خطة تخضع للتغيير لمجرد تغيير وزيرها، وإنما يجب أن تكون هذه الخطة جزء من الخطة الاستراتيجية العامة للدولة، والتي توضع كجزء أساس مرتبط بتحقيق أهدافها العامة، وليست لها علاقة في جزئية تغيير وزير التربية والتعليم.
ومن الحلول التي يمكن أن تتبناها الوزارة مرحليا للتخلص، ولو جزئيا من هذه المشكلة استعادة توظيف بعض المعلمين المواطنين ممن تم الاستغناء عن خدماتهم من قبل الوزارة، أو قدموا استقالتهم لأسباب متعلقة بعدم التقدير. وهؤلاء من الممكن استعادة بعضهم، إن لم يكن غالبيتهم، ولو على نظام العمل بالساعات، بحسب ما تقتضيه الحاجة لمعالجة مثل هذه المشكلات.
الجانب الآخر الذي يجب أن يعتنى به من قبل وزارة التربية والتعليم هو إعداد المدرسين وجعل قضية العلم والمعرفة والخلق الجيد أسس مهمة في عملية الإعداد هذه. لقد كانت وزارة التربية والتعليم، في فتراتها الماضية، مضطرة للتنازل عن بعض الشروط في مثل هذه المجالات من أجل سد الثغرات في مجال الحاجة الوظيفية في قطاعاتها، لكن هذه المسألة لم تعد تتماشى ليس فقط مع الأهداف التي نضعها لأنفسنا ولمجتمعنا اليوم، ولا مع واقع الحياة الذي أصبح أكثر تعقيدا مما كان عليه في السابق بل مع نوعية المدرس والتعليم الذي يقدمه.
اليوم نحن بحاجة لمدرسين يكون مستوى تعليمهم جيدا وكذلك إعدادهم وتدريبهم على مختلف المهارات. وهذه مسألة أعتقد أنها توفرت وبدرجة كبيرة في كليات التربية.
ولأن إعداد المعلمين أمر مرتبط بأهداف المجتمع العامة، تأتي مسألة أن تكون هناك خطط مشتركة بين مؤسسات الدولة المختلفة من أجل تعزيز هذا الهدف كأهم الأمور الواجب العمل عليها.
ومن أهم المؤسسات التي يجب أن تعمل معها وزارة التربية والتعليم هي مؤسسات الإعلام، والتي يجب أن تضع في برامجها خطط قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى.
ومما يجب الاشتغال عليه في الخطط قصيرة المدى صورة المعلم، والتي تحتاج إلى التغيير أو التصحيح في أذهان العامة من الناس. وهنا لابد من الإشارة والإشادة بالإعلانات التي تبث حول تعزيز دور المعلم في المجتمع والتي رعتها وزارة التربية، لكننا أيضا بحاجة لمجهود أكبر من مؤسسات الإعلام، وأن تضع في اعتبارها إدخال هذه القضية في المسلسلات الدرامية، والتي تعتبر ناقل مهم للأفكار.
إن مؤسسات الإعلام، وكما هو معروف، هي مؤسسات إنتاج الأفكار وترويجها وتعزيزها، إذ بإمكان الإعلام أن يضع قضية ما في أذهان الناس وأن يشغلهم بها، مثلما بإمكانه أن يلغي من أذهانهم قضايا أخرى، وإن كانت مهمة.
ونحن على يقين أن هذه الأجهزة تستطيع أن تروج للتعليم مثلما روجت لنشاطات كثيرة ورسخت أو غيرت حولها الكثير من المفاهيم. باختصار، نستطيع القول إنه متى ما توفرت الإرادة والخطة الجيدة والإمكانات فلا شيء يصبح مستحيلا، وأهم ما يجب أن نضعه في اعتبارنا أن العلم هو العمود الفقري للمجتمعات والذي لا تستطيع المشي بدونه.
جامعة الإمارات
