في الواقع كنت في صدد الحديث عن التطورات التي طرأت على السياسة الخارجية لدولة الإمارات والتي واكبت الجولات الدبلوماسية الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان إلى منطقة آسيا، إلا أن هناك بعض الأحداث التي أثرت على مجرى كتابتي لهذا المقال؟
ورأيت أن أكتب المقال بطريقة أخرى تتماشى مع هذه الأحداث ولا سيما إنها تعطي بعداً آخر لمجرى التطور الذي أردت التحدث عنه.
الحدث الأول تمثل في وفاة المغفور له بإذن الله الشيخ صقر بن محمد القاسمي حاكم إمارة رأس الخيمة؟ فبرحيله يكون قد رحل جميع الآباء المؤسسين الذين شهدوا قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، فالمغفور له بإذن الله الشيخ صقر بن محمد القاسمي كان له دور فاعل مع إخوانه حكام الإمارات في إرساء ثوابت السياسة الخارجية لدولة الإمارات والتي تنص على المبادئ السامية مثل الشفافية والحوار والمصارحة ومراعاة الجار وإقامة علاقات متينة مع جميع الدول على أساس الاحترام المتبادل.
وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين والجنوح إلى حل النزاعات بالطرق السلمية؛ كيف لا وقد ورثت إمارة رأس الخيمة قبل قيام الاتحاد تركة حدودية ثقيلة تمثلت في نزاعاتها الحدودية مع سلطنة عمان، بالإضافة إلى احتلال إيران لجزرها طنب الكبرى وطنب الصغرى، إلا أن المغفور له بإذن الله الشيخ صقر بن محمد القاسمي نأى بالاتحاد عن الدخول في أي من النزاعات المسلحة أو المواجهة المباشرة، بل كان على العكس من ذلك تماماً، حيث كان يدعو إلى حل الخلافات بالحوار والتفاوض السلمي.
وهذا ما عمل على تطبيقه على مدار حكمه في الفترة الماضية، حيث أبعد ليس فقط إمارة رأس الخيمة عن النزاعات المباشرة مع الدول المجاورة، بل أيضاً أبعد دولة الاتحاد من الدخول في نزاعات حدودية مع دول كبيرة في المنطقة، فرحم الله الفقيد وأدخله واسع جناته لما قام به من مساهمة جليلة في إقامة اتحاد دولة الإمارات والمساهمة في المحافظة على أمنها واستقرارها.
أما الحدث الثاني فقد تمثل في إطلاعي على مجموعة من الوثائق التاريخية المعاصرة المتعلقة بدبلوماسية المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في التعامل مع التحديات الكثيرة سواء تلك التي ألمت بإمارة أبوظبي وعلاقتها بدول الجوار قبل قيام الاتحاد أو بدبلوماسيته البارعة بعد قيام الاتحاد.
ويحق لنا اليوم أن نتباهى بهذه الدبلوماسية فقد أضفت على السياسة الخارجية الإماراتية أبعاداً عظيمة، فما وصلت إليه دولة الإمارات من نجاحات وازدهار ومن أمن واستقرار ليس إلا بفضل تلك الدبلوماسية البارعة لقائد بارع سيظل اسمه كبيراً ليس فقط في دولة الإمارات بل على مستوى الساحة الإقليمية والدولية بشكل عام.
لقد كان توجه السياسة الخارجية لدولة الإمارات انعكاساً واضحاً لظروف كل مرحلة من مراحل تطور الدولة. ففي مرحلة التأسيس في فترة السبعينات كانت السياسة الخارجية تعمل من أجل ضمان المحافظة على بقاء الدولة الاتحادية وكسب ثقة دول الجوار وإبعاد التهديدات الخارجية عنها.
وقد نجحت تلك السياسة في كسب ثقة واحترام المجتمع العربي والدولي في زمن يعتبر قياسياً جداً في عمر تلك الدولة الفتية. وفي فترة الثمانينات كانت الأخطار محدقة بالمنطقة حيث الحرب العراقية ؟
الإيرانية، فكانت السياسة الخارجية الإماراتية تعمل على إبعاد المنطقة عن حالة استمرار الحرب المهددة لأمنها من خلال العمل على حث الأطراف على وقف القتال والتحاور لحل خلافاتهم بالطرق السلمية ومحاولة إبعاد المنطقة عن حالة التجاذب القوية التي بدأت تسود العالم مع استمرار الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، وكانت تلك السياسة ناجحة إلى أبعد حد.
ثم جاءت فترة التسعينات لتتعامل السياسة الخارجية بحنكة مع الواقع الدولي الجديد الذي أوجدته نهاية الحرب الباردة وحالة التفرقة التي أصابت العالم العربي بعد اجتياح العراق للكويت، فكانت السياسة الخارجية الإماراتية أكثر دبلوماسية ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تطورات.
واليوم تقف السياسة الخارجية الإماراتية عند مجموعة من نقاط التحول أملتها عليها طبيعة المرحلة الراهنة من عمر النظام الدولي، حيث أصبحت الموضوعات الاقتصادية والتنموية هي الركائز الأساسية خاصة مع تلك الدول التي تتسابق خططها التنموية مع الزمن، فأصبحت السياسة الخارجية الإماراتية تركز على الأولويات الجديدة لتتواكب مع الخطط التنموية للدولة بشكل عام ولإمارة أبوظبي بشكل خاص.
حيث الاقتصاد والاستثمارات وتنويع مصادر الدخل وتحقيق الاستدامة في برامج البيئة والطاقة المتجددة فأصبحت هذه الموضوعات هي المحرك الأساسي نحو تفعيل السياسة الخارجية الإماراتية أكثر من الالتفات حول الأحداث السياسية الإقليمية والدولية، ربما لتضاؤل أهمية هذه الأحداث بالنسبة لسياسة الدولة الحالية، أو لربما هذه الأحداث ليست بالدرجة المؤثرة والكبيرة كالتي كانت في الفترات السابقة.
أو ربما يرجع أحد هذه الأسباب إلى الضعف والوهن الذي يعاني منه النظام الإقليمي العربي ومستوى الإحباطات المتكررة في التعامل مع قضاياه الرئيسية، اعتقد أن هذه الأسباب تقف وراء قراءة التحول الذي تشهده السياسة الخارجية الإماراتية، هذه السياسة التي تسجل منذ قيام دولة الإمارات العربية وحتى يومنا هذا صفحات مشرقة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.
كاتبة إماراتية