علمتنا الحياة أن هناك صنفين من البشر؛ صنف يرفع راية الاستسلام للحياة والدنيا عند أول مصيبة أو كارثة تواجهه، وينكسر مع أول عثرة أو فشل وإحباط، فينقلب على نفسه وعلى العالم ويعلن اليأس والقنوط من أي شيء وكل شيء. وصنف آخر، وهو النوع النادر، يقبل التحدي وينتزع النور من عتمة الظلام، وينتفض من تحت الرماد ليحلق كطائر الفينيق.. ويحول الألم إلى أمل، بل وإنجاز عظيم تتحدث عنه البشرية عبر العصور.
من هؤلاء وعلى رأسهم سيد الخلق محمد ابن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وهو خير قدوة وأسوة لنا في التغلب على الألم والمعاناة واليتم، ومحاولات التشكيك في رسالته وأخلاقه حين وصفوه بالساحر والشاعر والمجنون. لكن تلك المحاولات لم تزده إلا صبراً وحلماً وتفوقاً.
والبعض حول الألم إلى ضحكة ينثرها على العالم فيغمره بالسعادة التي تناقض ما في داخله، كما حصل مع الممثل السينمائي العبقري الذي أضحك العالم «شارلي شابلن»، وقد ولد ونشأ في بيئة فيها من الفقر والحرمان الشيء الكثير، حتى إنه في سن الخامسة وجد نفسه في دار الأيتام، لكن هذا الفقر كان الرحم الذي ولدت منه العبقرية، وكان الظلام حافزاً لشابلن أن يولّد من ذاته أكبر كمية ضوء تحول معها إلى نجم تتوارى خلفه النجوم.
كما أن المعاناة والألم ليسا فقط أن تنشأ في وسط فقير، بل أن تتكالب عليك الهموم ويتحالف عليك الحظ السيئ، ويرافقك الحسّاد والأعداء والمشككون أنّى حللت. وهذا تحديداً ما حدث مع عالم ورمز من رموز الحضارة العربية والإسلامية، هو «أبو بكر الرازي» الذي لقب ب«أبي الطب»
والذي أطلقت جامعة «بريستون» الأميركية اسمه على أكبر أجنحتها، تقديراً لجهوده وإنجازاته، وفي كلية الطب في جامعة «باريس» نجد نصباً تذكارياً له، وقد سمي باسمه العديد من المعاهد والمستشفيات وقاعات التدريس حول العالم. كما كانت لطه حسين معاناة كبيرة، فهو الذي فقد بصره، فخلدته بصيرته وتولى أهم المناصب القيادية في مصر.
وكان لملكة البرامج الحوارية الأميركية «أوبرا وينفري» قصة مؤلمة مع الفقر والعوز والتحرش الجنسي، فوالدتها كانت تعمل خادمة في البيوت، وقد عانت أوبرا من تحرش جنسي من قبل أحد أقاربها، فهربت من بيتها وهامت على وجهها في الشوارع والأزقة
وضاقت عليها الحياة بما رحبت، لكن أوبرا اليوم نموذج للتحدي والإصرار وتجاوز المعاناة الإنسانية، بل وتحويلها إلى قصة إلهام ونجاح يعيشها العالم ويتابعها كل يوم، فأوبرا تحظى في أميركا والعالم بالشهرة والاحترام والمكانة الرفيعة، حتى أضحى ظهورها إلى جانب مرشح للرئاسة خير دعاية له.
كما تعتبر حكاية «هيلين كيلر» الصماء البكماء العمياء معجزة، وقصة تغلبها على الألم والإعاقة والظلام مصدر إلهام للمعمورة، «هيلين كيلر» اليوم أحد أعظم رموز الإرادة الإنسانية عبر العصور، وهي من قال: «الحياة إما مغامرة أو لا شيء»!
الكتب والحياة من حولنا تحمل مئات القصص والتجارب الإنسانية لعظماء انتصروا على اليأس، وقهروا الظروف، وتحدوا أنفسهم والعالم أجمع، ووضعوا بصماتهم الخالدة في مسيرة الإنسانية، وأبوا أن يكونوا نسخاً كربونية من غيرهم، ورفضوا أن يكونوا رقماً في هذا الكم الهائل من البشر، بل كانوا المعادلة والرقم الصعب الذي يحول الكارثة إلى بطولة والهزيمة إلى نصر وتفوق.
ولعدم اتساع المقام، نذكر على عجالة أسماء بعض العظماء والمشاهير الذين صنعوا الاختلاف، وأدهشوا العالم، وأضافوا له، وتغلبوا على اليأس والفقر واليتم والفشل والإحاطات المتتالية، منهم:
العالم مايكل فاراداي، والموسيقي بيتهوفن، والشاعر أبو العلاء المعري، وشيخ المخترعين توماس أديسون، والعلامة الشيخ ابن باز، والفنان العبقري ليوناردو دافينشي، والرئيس المناضل من أجل الحرية والسلام نيلسون مانديلا، والشيخ المجاهد أحمد ياسين، والشاعر الفذ جرير، وغيرهم الكثير.
أدعوك عزيزي القارئ أن تقرأ سيرهم بتمعن واهتمام، ففيها الكثير من العبرة لأولي الألباب. عند قراءة سير هذه النماذج الإنسانية الرائدة، قد تعتقد لوهلة أن هؤلاء العظماء لهم قدرات خاصة ودرجة ذكاء خارقة، وأنك لا تملك هذه الخواص ولا حتى القليل منها.
لكن الواقع يقول غير ذلك، فالغالبية الساحقة منهم كانوا أناساً عاديين، نشؤوا في بيئة عادية، بل أسوأ من البيئة التي ولدت وترعرعت فيها، لكنهم كانوا يتميزون بالصبر والإرادة والطموح، وأن النجاح كما وصفه أديسون هو 99% جهد وتعب و1% إلهام.
كما أنهم لم يتأثروا بالنقد ومحاولات التثبيط، بل كانوا يعلمون أن من يُركَل من الخلف هو في المقدمة، وأدركوا أن نقائص العظماء عزاء التافهين، وأن من وصل إلى القمة لا بد أنه سار في القاع.
يبدو أن للإرادة والأمل مفعولاً عظيماً، فهما الرابط المشترك بين هؤلاء العظماء عبر العصور، فهل ندرك ذلك؟
نبض الضمير: وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام .
كاتبة سعودي