هل تقدر المحكمة الدولية بشأن لبنان أن تحدّد المستفيد من اغتيال الحريري؟ وهل يمكن فصل قرار إنشاء المحكمة عمّا كانت عليه إدارة بوش ونائبه تشيني و«المحافظون الجدد» من «رؤى» إسرائيلية للبنان وللمنطقة العربية؟
وهل اعتقال الضباط اللبنانيين الأربعة لمدة أربع سنوات ثم الإفراج عنهم بعد ثبوت براءتهم وبطلان شهادات الزور ضدّهم وضدّ غيرهم من أطراف لبنانية وسورية، هي مسألة هامشية لا يجب التوقّف عندها في سياق «البحث عن الحقيقة»؟ وهل القضية هي النتائج المتوقّعة من المحكمة فقط، أم أنّ الأهم هو التساؤل عن أسباب وظروف تأسيسها؟!
رغم شغف اللبنانيين بمتابعة التطورات الدولية وقدرتهم المتميّزة على التحليل السياسي الذي يربط أصغر قضية محلية بأبعاد دولية كبرى، فإنّ أفعال وسلوك معظمهم لا تخرج عن الدائرة الضيّقة للطائفة أو المذهب أو المنطقة.
وهم يكونون كما يُولّى عليهم، ويُولّى عليهم كما يكونون.. فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في العقلية الضيّقة التي تتحدّث عن العولمة من جهة، وتتصرّف بوحيٍ من مصالح الحي والشارع و»الزاروب» من جهةٍ أخرى!
ولعلّ من المهمّ، قبل الخلاف على موضوع المحكمة الدولية وكيْل الاتهامات شرقاً وغرباً حول الجهة المسؤولة عن اغتيال رفيق الحريري، أن يتساءل اللبنانيون أيضاً عن مدى مسؤوليتهم المباشرة عن توفير المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي وللأعمال الإجرامية، كتلك التي أودت بحياة رفيق الحريري.
فمرحلة ما بعد انتهاء الحرب اللبنانية، كانت فرصة لبناء وطن جديد قائم على مشروع وطني توحيدي، لكن الحكومات والمعارضات المتلاحقة، أصرّت على المشروع الطائفي/ المناطقي/ المصلحي أولاً. وها هو لبنان مرّةً أخرى يدفع الثمن باهظاً.
أطراف إقليمية ودولية عديدة، وظّفت أرض لبنان وصراعاته المحلية الضيقة من أجل مشاريعها الخاصة، لكنّ ذلك ما كان ليحدث لولا تعامل اللبنانيين (كما الأطراف الإقليمية والدولية) مع لبنان على أنّه «ساحة صراع مصالح»، وليس وطناً واحداً لكلّ أبنائه.
فلا العدالة كانت مرجعية الأطراف الدولية المعنية بالمسألة اللبنانية، ولا المشروع الوطني التوحيدي كان مرجعية الأطراف اللبنانية الفاعلة في الأزمة اللبنانية..
وحده المشروع الإسرائيلي هو الذي يحاول نخر الجسم اللبناني واستنزافه، مستفيداً من سلبيات العرب واللبنانيين في حقّ أنفسهم، ومن إيجابيات «المشاريع الدولية» المتقاطعة مع مصالح المشروع الإسرائيلي في لبنان وفي المنطقة عموماً.
أيضاً، فإن الهزيمة العسكرية لإسرائيل في لبنان منذ عقدٍ من الزمن، واضطرارها للانسحاب من أراضيه بفعل المقاومة اللبنانية، لم تكن هزيمةً نهائية للمشروع السياسي الإسرائيلي.
بل سعت إسرائيل منذ تحرير لبنان من احتلالها عام 2000، إلى جعل أيّة مقاومة لها بمثابة إرهاب دولي تجب محاصرته وعزله، وإلى جعل الموقف من المقاومة اللبنانية مسألة ينقسم عليها اللبنانيون كما هو الواقع اللبناني اليوم.
ربّما يتفاءل البعض الآن بطبيعة «تعدّد الطوائف» في كلٍّ من «الخنادق» القائمة منذ اغتيال رفيق الحريري، وبعدم وجود انقسام شبيه بحال لبنان عام 1975 بين منطقتين: شرقية وغربية بألوان طائفية حادّة.
هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أنّ الحرب اللبنانية اختتمت في أواخر الثمانينات بصراعات مسلّحة داخل كلّ منطقة، بين ميليشيات وقوى المنطقة نفسها. وذلك يعني أنّ المراهنين على إشعال الساحة اللبنانية الآن، يريدون حروباً أهلية لبنانية وليس حرباً واحدة..
يريدون الصراعات بألوان سياسية (8 آذار و14 آذار، مع المقاومة أو ضدّها، مع سوريا أو ضدّها)، بينما واقع الحال هو موزاييك من القوى الطائفية والمذهبية، التي إن تصارعت فستكون صراعاتها بطابع «شرقية/ شرقية» و«غربية/ غربية»، وليس صراعات سياسية فقط تستبعد العنف المسلح من أساليبها.
من قتل رفيق الحريري، ليس هو السؤال فقط.. «لِمَ جرى قتل الحريري ولصالح من وماذا»؟ هو السؤال الأهمّ.. وقد تمرّ فترة طويلة من الزمن قبل معرفة الإجابة عن السؤال الأول، كما حدث في اغتيالات سياسية عديدة في العالم، لكن الإجابة عن السؤال الآخر ممكنة، بل وواضحة الآن..
لقد كانت أزمات لبنان طيلة العقود الأربعة الماضية وحتى اليوم، مزيجاً من عوامل مركّبة داخلية وخارجية، تتحرّك معاً دائماً لتصنع أتون الحروب والصراعات المسلّحة. بل هكذا هو التاريخ اللبناني المعاصر كلّه، منذ كان لبنان منطقة جبل لبنان فقط أيام حكم المتصرّفية في أواخر القرن التاسع عشر.
وقد استطاعت إسرائيل في احتلالها المباشر أوّل مرّة عام 1978 لمناطق لبنانية عديدة، ثمّ في احتلالها وغزوها لمناطق أخرى وللعاصمة بيروت عام 1982، أن تكون هي أكثر العوامل تأثيراً في الحرب اللبنانية، وفي انعكاساتها الفلسطينية والسورية والعربية عموماً.
وإذا كانت إسرائيل هي العامل الأهم في «الحروب اللبنانية» وهي المستفيدة من تداعياتها، فإنّها لم تكن دائماً في موقع الرابح السياسي. فقد فشلت في تجزئة الوطن اللبناني، وانتصر «اتفاق الطائف العربي» على مشاريع التقسيم الطائفي الإسرائيلي.
لكن المشاريع الإسرائيلية بشأن لبنان لم تتوقّف في أي يوم، بدلالة نوع وعدد العملاء الذين يتمّ الكشف عنهم من قبل السلطات الرسمية اللبنانية، فلبنان لا يزال في دائرة الاستهداف الإسرائيلي، بغضّ النظر عن التغيرات التي حدثت وتحدث في المجالين الدولي والإقليمي.
إنّ قرار مجلس الأمن رقم 1559 للعام 2004، كان هو بداية الأزمات السياسية والأمنية التي شهدها لبنان في السنوات الماضية، ومن ضمنها الاغتيالات السياسية التي حدثت. فالقرار استهدف إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان أولاً، ثم استهدف أيضاً ما هو أكبر من طاقة لبنان ومن مسؤولية سوريا بعد انسحابها الكامل.
لقد استهدف نزع سلاح «حزب الله» والمنظمات الفلسطينية في المخيمات، وكلتا الحالتين ليستا صناعة لبنانية أو عربية، بل هما نتيجة للسياسة الإسرائيلية العدوانية لأكثر من نصف قرن.
إنّ إسرائيل هي الطرف المُغيَّب في القرار 1559، فهي حين تُنهي احتلالها للأراضي العربية، وحينما تقوم دولة فلسطينية حقيقية، وحينما تحصل بعد ذلك تسويات سياسية تنهي الصراع مع إسرائيل على الجبهتين السورية واللبنانية، وتحقّق الحلَّ العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، يصبح بمقدور لبنان التنفيذ الكامل للقرار 1559.
فالمقاومة اللبنانية مرتبط سلاحها بوجود الاحتلال وبالتلازم المصيري بين الجبهتين السورية واللبنانية، والسلاح الفلسطيني في المخيمات مرتبط بحلّ قضية اللاجئين ومصير مئات الآلاف منهم على الأراضي اللبنانية.
إنّ التوافق اللبناني حول هذا الأمر هو في غاية الأهمّية، إذ من شأنه أن ينزع عناصر التفجير من أيدي القوى الخارجية، أيّاً كانت هذه القوى.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
alhewar@alhewar.com
