تلقت حالة الحرية التي تعيشها الصحافة المصرية ضربة الأسبوع الماضي بإقالة إبراهيم عيسى رئيس تحرير صحيفة الدستور اليومية المصرية.. هذه المرة ليست بيد الحكومة، ومن ثم فإن الغضب لن يوجه إليها، لكنه يتوجه لأطراف أخرى في الساحة السياسية والصحافية ادعت (بالحق أو بالباطل) أنها تعرضت لضغوط..

هذا الادعاء خلق حالة من التوهم بأن السلطة السياسية دبرت الأمر من تحت الطاولة.. وأن هذا التدبير يأتي ضمن سلسلة إجراءات تمهد الساحة لشيء ما غامض.. وحين تنطق هذه العبارة لا يتبادر إلى الذهن غير توجيه مسار الانتخابات البرلمانية المقبلة لتأتي بنواب عن الشعب مرغوب فيهم لا يستطيعون رفع الصوت إذا ما مررت الحكومة تشريعات أو تعديلات دستورية تعطي إيحاء دعائياً بالتغيير..

وتبقي باب الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في 2011 (مفصلا) على مقاس أشخاص بأعينهم ليس بإمكانهم إحراج مرشح الحزب الوطني الحاكم حتى لو أجريت انتخابات نزيهة وشفافة وتحت أكثر أشكال الرقابة الدولية صرامة.

حسب تقديري فإن المسارعة باتهام السلطة ينطوي على نوع من العجلة في الأحكام. فهناك شواهد على أن صدر كبار المسؤولين لايزال متسعا ويتقبل النقد، بدليل أن انتقاد رئيس الجمهورية لم يعد يخيف أي وسيلة إعلامية.

كما أن واحدا من أركان الحزب الوطني الحاكم (أحمد عز أمين التنظيم) لم تفد محاولاته المتكررة في إقناع السلطة بممارسة ضغوط توقف الانتقادات اللاذعة والهجوم المباشر الذي يتعرض له شخصيا مع غيره من كبار رجال السلطة، فقرر توظيف جزء من استثماراته في المجال الإعلامي سعيا إلى امتلاك منابر تمارس نوعا من الردع ضد من يعادونه لنفوذه السياسي أو لاحتكاره واحدة من اهم الصناعات في مصر تحت كنف السلطة.

المربك في الحالة المصرية أن ما تتمناه السلطة لخصومها أو لنفسها يختلط بتطوع المتطوعين، فلا تعرف ما الذي أوحت به السلطة من الفعل الذي خططه ودبره آخرون بغية التقرب من دوائر الحكم..

واحيانا يكون المتطوع ملكيا أكثر من الملك، خاصة في صفوف القيادات التي تدعي المعارضة وتمارس أفعالاً تجعل الناس يحسون بأن نار السلطة على كثرة سوءاتها أكثر رحمة من جنة المعارضين (الزائفين).

بالقطع هناك معارضة شريفة ومبدئية في مصر لكن أغلب المنتمين إليها لم يجدوا وقتا في خضم نضالهم المستمر لتكديس الثروات أو امتلاك منابر إعلامية كالفضائيات والصحف، كما أن محاربتهم على يد الدولة لم تجعل لهم نفوذا وسطوة، فغردوا خارج الأحزاب القائمة أو حكم عليهم بالتهميش داخلها.

وملاك الدستور الجدد (د. السيد البدوي ورضا إدوارد) يمثلون صنفا جديدا من الذين أتيح لهم اعتلاء صهوة الأحزاب، فالأول على وجه التقريب ليس له من الماضي السياسي ما يؤهله ليتولى أمانة حزب الوفد في محافظة من المحافظات، ومع ذلك فإنه أصبح رئيسا لهذا الحزب العريق توضع صورته جنبا إلى جنب مع سعد زغلول ومصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين.. ولم يكن صعوده إلى رئاسة الحزب إلا نوعا من تعميم زواج المحارم بين السلطة والثروة على المعارضة.

بالتأكيد فإن المال لازم للقيام بأي نشاط فعال في السياسة كما في غيرها.. غير أن السياسة التي تشبه العمل الخيري ـ لمن يخلصون للأوطان عن حق ـ تتحول مع هذا الزواج غير المبارك إلى أداة للنهب العام، ويتحول المال إلى أداة لسرقة السلطة وتوسيد الأمر إلى غير أهله. كانت الدستور اتفقت أو اختلفت معها شمعة تحاول تبديد بعض الظلام..

وكان رئيس تحريرها صاحب جرأة ومهنية من نوع خاص جعلت اسمه يتماهى باسم صحيفته التي حفرت لها مكانتها الخاصة في تاريخ الصحافة المصرية.

واذا كانت السلطة نفسها كثيرا ما تباهت بحرية صحافة لا حدود لها.. وكانت الدستور واحدة من العلامات المهمة على وجود هذه الحرية بالفعل.. فإن هناك من لا يرضيه أن يظل شيء محل فخر في مصر.. فسارع بإطفاء الأنوار حالما طالت يده الزر سواء بالتطوع أو التواطؤ.. ويبقى التطوع بعمل شائن كهذا اعظم المصيبتين.