هناك مثل يقول إن الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لا تعرفه، ولكن يبدو ان المنطقة العربية رغم معاقرتها الطويلة لقوى اقليمية وغربية لم تفلح في تكوين معرفة حقة تتيح لها أن تتفهم مراميها وأهدافها، وأن تتوقع تصرفاتها حال الانتصار والانكسار، وأن تحتاط لما يمكن أن يبدر منها. ذلك أن الشيطان يستعصي على المعرفة الحقة دائما، وإلا لما أصبح شيطانا، كما أن المعرفة السطحية به كعدمها ولا يعصم منه ومن تصرفاته الا قوة أكبر وأشد منعة.

بداية أغسطس الماضي كتبت مقالا بعنوان «لعنة رحيل المحتل» وربما كان العنوان صادما لمن يعرفون موقفي من الاحتلال والغزو وقهر الشعوب، لكني كنت على يقين من أن فراغا سينشأ ويتيح تدخل قوى أخرى، إقليمية أو دولية، كما أن المحتل سيلجأ حتما الى حيل أخرى، ففشل التدخل العسكري المباشر سيجعل ذهنه يتفتق عن حيل أخرى تتيح له ان يحقق مراميه، وأظن أن المخاوف التي طرحتها في ذلك الحين قد تحققت.

ففضلا عن استمرار الفراغ السياسي في العراق واستقواء اطراف اللعبة بقوى اقليمية غمست انفها في الشأن العراقي وجعلت الانتخابات بابا لهز الاستقرار الأمني والسياسي بدلا من أن تكون مدعاة للاستقرار وتقاسم السلطة عاد شبح المذهبية بقوة، وبدرت اتهامات معلنة عبر وسائل الإعلام بتمثيل كتل لمكونات طائفية او مذهبية بعينها دون بقية اطياف الشعب العراقي، وكلما لاحت بادرة للتوافق والخروج من النفق سارعت احدى الكتل لتغيير ولاءاتها واتفاقاتها استجابة لضغوط خارجية.

ولم تقتصر تداعيات محاولة ملء الفراغ على الساحة العراقية، بل امتدت أصابع خفية لتعبث بأمن واستقرار دول أخرى في المنطقة فرأينا اصطفافا مذهبيا في الكويت على خلفية إساءة احد الدعاة للسيدة عائشة ما دفع السلطات الكويتية إلى سحب الجنسية منه.

وفرض إجراءات اقرب لأحكام الطوارئ تعطل ما كانت الكويت تتمتع به من حرية سياسية يحسدها الجيران عليها، كما رأينا قلاقل في البحرين وتسريبات عن احباط أعمال عنف واعتقال عشرات ممن وجهت اليهم تهمة الإضرار بأمن البلاد، وفرض حالة من التوجس والحذر بددت الاطمئنان الذي كان موجودا وألقت بظلالها على الانتخابات المقبلة، نفس الشيء تقريبا حدث في لبنان.

فبعد التفاؤل بتشكيل حكومة وحدة وطنية جمعت قوى 8 آذار بقوى 14 آذار برئاسة سعد الحريري عاد التوتر من جديد على خلفية القرار الظني الذي تسرب ولم يصدر عن محكمة الحريري ثم انتقل الخلاف الى تمويل المحكمة وعادت الاصطفافات البغيضة تطل برأسها من جديد، والاستقطابات تخيم على المشهد اللبناني لتعود البلاد خطوات الى الوراء.

وغير بعيد عن الخليج ولبنان تفجرت في مصر أزمة جديدة بين المسلمين والأقباط ما بين متهم للكنيسة عبر قناة الجزيرة باتباع سياسات عدائية تجاة الاغلبية المسلمة في المجتمع المصري، ومشكك في آيات القرآن أو معتبر الأقباط هم أصحاب البلد الأصليين والآخرين ضيوفا عليها، وانتقل التوتر من صفوف النخبة الى الشارع فتم تنظيم تظاهرات تطالب الكنيسة بفك احتجاز سيدة قبطية كانت أعلنت إسلامها، وكأن كل مشاكل البلاد الأخرى قد تم حلها.

وجاء النموذج الأبرز والمعلن للتدخل الخارجي من السودان، حيث تستعد واشنطن وعواصم غربية اخرى للاعتراف بدولة في الجنوب وكأن نتائج الاستفتاء محسومة مسبقا، وهناك من شغل نفسه بتفاصيل من عينة النشيد الوطني والعلم، كما تمارس ضغوط مكثفة لتعيين حدود الدولة الجنوبية، وربما أعدت وزارات خارجية غربية اسماء من ستعينهم سفراء في الدولة الجديدة.

هناك أصابع إقليمية ودولية تعبث في المنطقة واستراتيجيات قديمة للتفتيت يتم إحياؤها، ورد الفعل العربي الجمعي بطيء كالسلحفاة وكأن الجميع قد أصيبوا فجأة بنوع من التأخر الذهني.