كما أن وجه الأم هو أول ما تراه أعيننا، فإن حروف اللغة الأم هي أول ما ننطق به من كلمات، وكما أن الأم تبقى معنا حولنا وفي قلوبنا مدى الحياة، فاللغة الأم كذلك، ولا أدري كيف فرطنا فيها بكل بساطة هكذا، ودون حاجة ملحة لذلك أو ضغط؟!
اليوم هناك جيل كامل في الحياة وفي مراكز العمل، تعلم بغير لغته الأم، وتلقى تعليمه كله من ال«كي جي» إلى الجامعة باللغة الانجليزية، جيل حُرم صدر اللغة الأم، وسعة اللغة الأم، وقرب اللغة الأم، وجمال اللغة الأم.. ببساطة جيل حرم أصل كثير من الأشياء لحرمانه من هذا الأصل (إنما العربية اللسان)، فماذا بقي لهم بعد ذلك؟
التعليم الحكومي كان ولا يزال باللغة العربية، وأتمنى أن يستمر، ولكن المأساة أن التعليم الخاص يستحوذ على حصة كبيرة من أعداد الطلاب المواطنين تحديدا، وهذا التعليم لا يقدم شيئا أفضل من الحكومي أبدا، ولم يجذب الناس إلا بهذه اللعبة البراقة التي يعلقها على صدره، ألا وهي التعليم باللغة الانجليزية!
المعلومة إذا لم تستخدم، تموت وتنسى عادة، والطفل في سنواته الأولى يحتاج إلى تعلم الكثير من المبادئ الحياتية المهمة. العلوم والرياضيات، ومبادئ النظافة وأسس التغذية وظواهر الطبيعة، ومبادئ الحساب البسيطة من جمع وطرح وقسمة وضرب، أمور يجب أن يفهمها الطفل جيدا، ويعيد طرحها وتبادلها مع الأسرة.
ولكن الذي يحدث أنه بالكاد يبتلعها، ويذاكرها للامتحان، وعندما يسأله الوالدان عما درس، فإنهم عادة يفعلون ذلك للاطمئنان، ثم إن الأمور تتوقف عند الرد تماما، لأن الأسر لم تصل إلى مرحلة إبدال لغتها في البيت، ولن تصل، وهذا بديهي، وإثارة نقاش كامل بالإنجليزية كل يوم داخل البيت أمر مثير للملل والتعب.
لنا أن نتخيل أن الدرس كان عن الهرم الغذائي مثلا، أو أنه عن دورة حياة الفراشة، أو البناء الضوئي، فمن يحتمل أن يتحدث في كل ذلك بالانجليزية ولماذا؟ فكل ما يحدث إذن، هو سين وجيم، وبارك الله فيك يا بني فقط!
المأساة في الرياضيات ليست أقل من ذلك، ويقف ولد في العاشرة من عمره محتارا في عملية جمع وطرح بسيطة أمام بائع الدكان، وتتكشف قلة حصيلتهم مع الأيام عندما يصعب عليهم فهم وتطبيق أمور معتادة في الحياة، كالأطوال والمساحات مثلا. واسأل أي ولد في ثانوية أجنبية عن مساحة الغرفة التي يجلس فيها بعد إعطائه المعلومات، فأول رد منه سيكون: ما معنى مساحة؟
أية عجلة من الغباء هذه التي نديرها منذ أعوام في حياة أبنائنا؟ ولمصلحة من؟ لا يوجد أي مبرر إلا أن يكون الأهالي يريدون ذلك، والأهالي إذا تمت توعيتهم لن يريدوا ذلك حتما، ولن يرضوا بأن يضيعوا أجمل أعوام فلذات أكبادهم، ويحرموهم حظهم من الاستمتاع بالتعليم، ويجعلوا أيامهم منذ عامهم الرابع تنحصر في كلمة واحدة، الانجليزي فالانجليزي فال.. انجليزي، وكأن تعلم هذه اللغة واجب مقدس أو هم لا بد منه. والطامة الكبرى أنهم يتخرجون وهم لا يجيدونها إلا قليل منهم.
دائما أشعر بألم حاد في صدري، عندما تبرر الأمهات وضع أطفالهن ممن هم في الرابعة أو دونها في حاضنات بالانجليزية، بقولهن: ماذا نفعل، الجامعات بالانجليزي وعلينا إعدادهم من الآن!! يا الله، يعني أكثر من خمسة عشر عاما لغة؟ لماذا لا نفكر في البدائل؟ أو نستفيد من تجارب الآخرين في هذا المجال؟!
إن نتائج الدراسات التي أجريت حول هذا الأمر في بعض الدول العربية والأجنبية، غير مشجعة أبدا، وقد أظهرت بوضوح ضعف حصيلة الطلاب اللغوية من اللغة الأم، إضافة إلى الضعف في فهم العلوم والرياضيات مقارنة بمن درسها بلغته الأصلية.
وعموما فالنجاح في إتقان أية لغة يعتمد على التدريس الجيد لها، وليس بتحويلها إلى لغة بديلة لا تفعل أكثر من هلهلة شخصية الفرد وإضعافها، ثم إننا في الدول العربية لدينا مشكلة إضافية تزيد الأمر سوءاً، وهي أن الفصحى تعتبر لغة جديدة ثانية للطالب، باعتبار أن العامية هي لغته الأم، فهو مطالب بالتعلم بلغتين جديدتين عليه، وليست لغة واحدة، والنتيجة كما رأيناها كثيرا، هي وصوله إلى الجامعة بضعف واضح في اللغات الثلاث جميعها.
نسينا أن أجيالا كاملة تعلمت بالعربية، ودرست الطب والعلوم والهندسة ومختلف العلوم في الدول العربية والأجنبية، وخاضت الحياة بشخصيات متكاملة ولسان مبين، ومن حسن حظهم أنه لم يكن أمامهم إلا التعليم الحكومي بالعربية، ومن حسن حظنا أن الوقت لم يفت أبدا لإعادة طرح هذا الموضوع المهم في المجتمع ودراسته دراسة واعية، ولا شيء يبرر ما يحدث في التعليم الخاص هنا، ولا أحد.. لا أحد في هذا العالم، يفعل بلغته وبأبنائه طوعا واختيارا ما نفعله بلغتنا.. وبأبنائنا.
كاتبة إماراتية