أربعون عاماً مضت على وفاة جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970. البعض يعتبر أنّ الحديث الآن عن ناصر، هو مجرد حنين عاطفي لمرحلة ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة في خلافاتٍ واجتهاداتٍ عمرها أكثر من 14 قرناً.
لا هدف لها إلا تقسيم الأمَّة العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية، تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون «الدولة اليهودية» نموذجاً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!
هو «زمنٌ إسرائيلي» نعيشه الآن يا ناصر، بعد رحيلك المفاجئ، وبعد الانقلاب الذي حدث على «زمن القومية العربية» حين كانت مصر، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، طليعته.
فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب «حوادث» و«أحاديث» طائفية ومذهبية وعرقية، لتفتيت الأوطان نفسها لا الهويّة العربية وحدها.
هو «زمنٌ إسرائيلي» الآن يا ناصر على مستوى العالم أيضاً. فعصر «كتلة عدم الانحياز لأحد المعسكرين الدوليين» الذي كانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر «صراع الشرق الإسلامي مع الغرب المسيحي» بينما تهمّش «الصراع العربي/ الصهيوني»، وفي هاتين الحالتين المكاسب إسرائيلية ضخمة.
فهل صحيح أنّ الحديث الآن عن جمال عبد الناصر، هو مجرّد حالة «نوستالجية» لا علاقة لها بالواقع الراهن؟ وكيف يكون الأمر كذلك، إذا كانت أوضاع مصر والعرب حالياً هي صورة معاكسة لما مات عبد الناصر من أجله؟!
ألم تأتِ المنيّة ناصر (بفعل قدري أو بجريمة تسميم) وهو يجتهد ويُجاهد لوقف الصراعات العربية التي تفجّر بعضها دماً آنذاك في شوارع الأردن بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية؟ ألم يكن التضامن العربي الفعّال هو استراتيجية ناصر التي بناها في قمّة الخرطوم عقب حرب العام 1967، والتي وضعت حدّاً لمرحلة الصراعات العربية من أجل أولويّة المعركة مع إسرائيل؟
ألم تكن الغاية الإسرائيلية (المدعومة أميركيا) بعد عدوان 1967، هي إخراج مصر من الصراع العربي/ الإسرائيلي، والمقايضة مع ناصر بإعادة سيناء له مقابل عزلة مصر عن المشرق العربي والجبهات الأخرى مع إسرائيل؟ أليس محزناً أن تصبح الأولويّة الآن لضمانات الأمن الإسرائيلي، وليس لحقّ المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال؟!
وأن يكون الموضوع الأول في المفاوضات هو «حدود الدولة الفلسطينية المنشودة»، لا إجبار إسرائيل (القائمة على الاحتلال لأكثر من 60 عاماً) على إعلان حدودها؟!
رحم الله جمال عبد الناصر الذي كان يكرّر دائماً: «غزَّة والضفَّة والقدس قبل سيناء.. والجولان قبل سيناء»، والذي أدرك أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الإفريقي.
اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كانت عليه مصر والعرب قبل أربعين عاماً.. فقد سقطت أولويات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها «المعاهدات»، اليوم هوت «الهوية العربية» لصالح مسيرة الانقسامات الوطنية الداخلية، اليوم تزداد الصراعات العربية بينما تنشط مسيرة «التطبيع مع إسرائيل»!
اليوم، أصبحت الأولويّات هي الحرص على الحكم لا على الوطن، اليوم تتحقّق في المنطقة العربية أهداف سياسية كانت مطلوبة إسرائيلياً ودولياً من حرب 1967، وقد منع عبد الناصر تحقيقها عقب الهزيمة، حينما رفض استعادة الأرض عن طريق عزلة مصر وتعطيل دورها العربي التاريخي..
عبد الناصر أدرك بعد حرب 1967 أهمية وجود كيان فلسطيني مقاتل، فدعم انطلاقة الثورة الفلسطينية وقيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية، رافضاً إقامة «فصيل فلسطيني» خاص تابع له (كما فعلت آنذاك حكومات عربيّة أخرى)، انطلاقاً من حرصه على وحدة الشعب الفلسطيني وعلى توحيد جهود هذا الشعب من أجل استعادة وطنه.
فإذا بقيادة هذه المنظمة فيما بعد تُحوّل قضيّة شعب إلى مصالح «فصيل»، وتختار حلّ مشاكلها الذاتية (السياسيّة والماليّة) على حساب حلّ مشكلة شعب فلسطين، وتُسلّم خطوةً بعد خطوة بالمطالب الأميركية والإسرائيلية، منذ «اتفاق أوسلو» عام 1993.
عبد الناصر أكد بعد حرب 1967 حرصه على تعميق الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وعلى رفض الصراعات الجانبيّة المحليّة التي تخدم العدوّ الإسرائيلي (كما فعل في تدخّله لوقف الصراع الداخلي في لبنان عام 1968.
بعد صدامات الجيش اللبناني مع المنظمات الفلسطينية)، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي كلّها، وكذلك الصراعات المحليّة المسلّحة بأسماء طائفيّة أو مذهبية، ولتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لمطلب السيطرة الخارجية والصهيونية.
البعض في المنطقة العربية يرى الحلَّ في العودة إلى «عصر الجاهلية» وصراعاتها القبلية، وهو يستهزئ بالحديث الآن عن حقبة ناصر التي ولّت!
وبعضٌ عربيٌّ آخر يرى «نموذجه» للحل بعودة مصر والبلاد العربية إلى مرحلة ما قبل عصر ناصر، أي العقود الأولى من القرن العشرين التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على الشرق! بينما لا يجوز في رأي هؤلاء الحديث مجدّداً عن ناصر وتجربته، وعن قيمه والأهداف التي سعى لتحقيقها في مصر والمنطقة العربية.
هذا واقع حال العرب اليوم، بعد 40 سنة على غياب عبد الناصر، فهل يتنبَّه العرب إلى ما هم عليه من انحدارٍ متواصل؟ لنقرأ ما قاله جمال عبد الناصر عن ذلك، في خطابه أمام المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي العربي عام 1969:
«إنّ رصاصة الأعداء لا تفرّق بين المسلم والمسيحي، وقنابل إسرائيل لا تفرّق بين المسلم والمسيحي، ولنتذكّر جميعاً أنّ العدوّ لا يختصّ واحداً منّا بخطره، وإنّما خطره على الكلّ، لأنّ مطامعه في الكلّ، والتركيز على واحدٍ منّا قبل غيره، هو مسألة أولويّات يختارها العدوّ وللأسباب الملائمة...
إنّني أريد أن أحدّد أمامكم عدّة مبادئ:
أولاً؛ إنّ هناك معركة واحدة، وليست هناك معركة أخرى غيرها في العالم العربي، وهذه هي معركة الأمّة العربية ضدّ العنصرية الصهيونية المؤيَّدة بقوى الاستعمار.
ثانيا؛ لسنا من أنصار إنشاء محاور عربية، إنّما تهمّنا مساهمة كلّ بلد عربي في المعركة، نحن مع كلّ تغيير يزيد من القوة العربية المحتشدة من أجل المعركة، وضدّ أي صراع شخصي أو طائفي أو فكري يكون من شأنه أن يضعف المعركة وأن يأخذ منها».
بعد أربعين عاماً على غياب جمال عبد الناصر؛ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات.. لكن ما لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات على مصر وعلى العرب أجمعين.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
alhewar@alhewar.com
