كثيرون من الكتاب في دولتنا تناولوا موضوع التعليم في دولة الإمارات، وكان المحور الأساس في ما طرحوه يتركز حول ضرورة تطوير أنظمة التعليم الموجودة لدينا.

بعض هذه الآراء التي طرحت كانت تنتقد بشدة نظام التعليم الذي كان سائداً في الدولة، وربما لا يزال، والذي ترى أنه نظام لا يتجاوب مع معطيات العصر وعاجز، على حد زعمها، عن الإيفاء بمستجدات الحياة والتوافق مع ما هو مطلوب من الخريجين من متطلبات سوق العمل.

وتركز الكثير من النقد أيضاً من بعض هؤلاء الكتاب على كون نظم التعليم التقليدية السابقة تركز على تعزيز مهارات الحفظ لدى الطلبة وتتجاهل الإمكانات الأخرى الموجودة لديهم، ومنها على سبيل المثال مهارات التفكير الإبداعي والاعتماد على التعلم الذاتي.

ولأن موضوع التعليم في الدولة من المواضيع التي تستحق أن تولى كبير عناية واهتمام، وأن يطرح حولها الكثير من الآراء حتى يتبين المجتمع خطه الواضح حولها، فإني أرى أن تكون هناك سجالات أوسع حول هذه القضية، وأن لا يقتصر الأمر على مجرد طرح آراء في الصحف أو الندوات أو المجالس.

بل يجب أن تكون هناك توجهات، من قبل الدولة تحديدا، لتناول هذه المسألة بشيء من العمق، والعمل على وضع دراسات ميدانية حقيقية تنظر لمثل هذه المسألة من زوايا عديدة، وأهمها التعامل مع قضية التعليم على أنها شأن متصل، وبشكل أساس بالصورة التي ترسمها الدولة لنفسها وكيف ترى كيانها من خلاله.

ثم إن طرح موضوع علاقة التعليم بالأمن والاستقرار في البلد، قضية ليس بالامكان تجاوزها أو تجاهلها، مثلما يدرك الكثيرون من الضالعين في هذا الأمر.

ومن الأشياء التي أرى أننا يجب أن نتعامل معها في البداية، وبشكل دقيق، قضية النظر في نظم التعليم السابقة، حيث أن نلمس أن الكثير من النقد الموجه تجاهها هو نقد غير دقيق وغير علمي، إذ لو افترضنا أن نظام التعليم السابق كان سيئا برمته.

فكيف لنا أن نقيم المجموعة الكبيرة التي خرجت من صفوفه وأدارت دفة هذه البلد، والكثيرون منهم هم من الشخصيات المميزة والمشهود لها بالفكر النير والقدرة على التعامل مع معطيات ظروف الحياة المختلفة وابتكار الحلول لمشاكل مجتمعاتها، والقدرة على مجابهة الكثير من الصعاب.

إذا، المنطلق في تقييم نظم التعليم السابقة يجب أن يصحح أو أن يعاد النظر فيه بشكل يتعامل معه بموضوعية وبدقة أكبر، وأن نتحاشى مسألة التعميم حوله.

النقطة الأخرى التي تستخدم في انتقاد نظام التعليم السابق، تركز على كونه قائماً على موضوع الحفظ والتلقين، وليس على اكتشاف مهارات التفكير المبدع وابتكار الحلول في أذهان الطلاب.

وهذه النقطة أيضا لا تخلو من مآخذ، إذ هي مبنية على أن عملية الحفظ في التعلم هي عملية غير جوهرية وغير مطلوبة، وهذه نظرة قاصرة وغير علمية في جوهرها، ليس لموضوع التعليم بشكل مباشر، وإنما للتعامل مع نشاطات الإنسان الذهنية.

حيث لا يمكن اعتبار الذاكرة في الإنسان قضية هامشية، وبالذات في ما يتعلق بعملية التعلم وباستنباط الأفكار، فالذاكرة هي المخزون الذي يتحرك الإنسان بناء عليه، وهي جهاز توجيهه في كافة النواحي، ليس التعليمية فقط وإنما حتى العاطفية أيضا.

وهنا أعتقد أنه يجب على وزارة التربية والتعليم أن تعتني بالتوسع في توظيف متخصصين في عمليات الإدراك لدى الإنسان وكيف تعمل، حتى يتسنى لهم الخروج ببرامج تتوافق مع ما هو مطروح في الدولة من أهداف. وبعض الآراء التي تنتقد عملية الحفظ، لا تذكر أن هذا الأمر مرتبط بقضية حفظ القرآن.

وهذه في اعتقادي رؤية خطيرة، ليس لكونها تسعى لتقليص القيم الإسلامية في نفوس الأبناء، وهي جزء جوهري في قيمة الحضارة الإسلامية، وإنما هي أيضا لا ترى جوهر البعد التفكري في آي القرآن، ولا تستطيع التعامل معه على أن يشكل المرجع، ليس فقط الديني لهذه الأمه، وإنما المرجع الأخلاقي والعلمي أيضا، وهذان بعدان أساسيان في عملية تمكين المجتمع من جانبي العلم والمحافظة على جوهر التوازن فيه.

كذلك لو نظرنا لقضية حفظ القصائد المهمة الموجودة في كتب التعليم سابقا، والتي لم تسلم كذلك من توجيه النقد إليها، لوجدنا أن لها هي أيضا جوانبها المهمة في تكوين الأبعاد الأخلاقية أو الفكرية أو الإنسانية في الطالب، فهي تغذي أبعادا مهمة في تكوين شخصيته ورصيدا يعتمد عليه كثيراً في تشكيلها.

الموضوع الجوهري الآخر الذي أرى أن وزارة التربية قد قصرت فيه وفي تناوله بشكل علمي ودقيق، موضوع لغة التدريس. والقضية هنا يجب أن يفهم من طرحها أننا لا ننطلق من موضوع التحيز للغتنا، وإن كانت هذه تهمة نعتز بها حيث إنها تكشف أننا لم نتنكر لذواتنا حتى الآن.

إنما أردت أن يتم التركيز عليها أيضاً من نواح علمية، مثل أن ننظر في عملية التعلم نفسها وكيف يتعامل معها الدماغ البشري، وهل فعلاً الآراء التي طرحت حول أن الإنسان يتعلم بشكل أفضل من خلال لغته الأم، صحيحة أم هي محض كلام؟

جانب آخر يجب تناوله كذلك في قضية تعليم اللغة، وهو الجانب النفسي المتعلق بعلاقة اللغة مع التكوين النفسي للإنسان، وما الذي يحدث للبشر في حال تهميش لغتهم الأم وثقافتهم، هل يصبحون أكثر تحضراً، أم أنهم في دواخلهم يتبنون شخصية التابع الذي لا يرى نفسه إلا في ظل من صنفه على أنه الأقوى!

هذه أبعاد يجب أن نتعامل معها وأن لا يتم تجاهلها في عملية التعليم، وهذه ليست وجهة نظر شخصية، كما يقول البعض ممن لم يطلعوا على الدراسات في هذا الجانب، وإنما هذه رؤية تفرض نفسها علينا، كونها تم التعامل معها في تجارب ودول مختلفة في العالم، بما في ذلك الكثير من الدول الأوروبية.

بقي لدينا بعد جوهري ومهم، لكن لا يتسع المجال لطرحه في هذا المقال فعسى أن نوفق في تناوله في مقال آخر، ألا وهو البعد المتعلق بالمعلم، وهو الناقل الأساس في عملية التعليم وأحد أهم عناصرها الجوهرية التي نتمنى أن تحظى بكافة أشكال العناية.

جامعة الإمارات

hessahlooth@gmail.com