سألني صديق إيطالي عن أقوى رجلين في العالم، وقبل أن أجيبه قال لي: «إنهما بابا الفاتيكان وجوزيف بلاتر».

فكلاهما يدير دولته الخاصة التي لا تقف حدودها في الدولة التي تقيم فيها، بل إنها تخترق دولاً أخرى، عن طريق أتباعهم ومؤيديهم ومن يحتاجون إلى بضاعتهم، دون أن يفكّر أحد رؤساء تلك الدول بالتصدي لهم. فعندما (يفكّر) بابا الفاتيكان في زيارة دولة ما، يخرج رئيس تلك الدولة ويصرح للإعلام بأن دولته مستعدة لاستقبال الحبر الأعظم والتشرف به خلال هذه الزيارة التاريخية. ولقد خصصت الحكومة البريطانية مؤخراً مبلغ 12 مليون جنيه لتستعد لزيارة البابا، على الرغم من خطة التقشف الاقتصادي التي بدأت الحكومة بتطبيقها.

أما جوزيف بلاتر فإن جرة قلم منه ترفع أسعار عملة دولة ما وتبني اقتصاد دولة أخرى كما حصل في جنوب إفريقيا التي قُدّرت عوائدها من استضافة كأس العالم، الذي استمر شهراً واحداً فقط، بـ 4,3 مليارات دولار. ولا يمكن لأي رجل غير بلاتر تحقيق هذه الأرباح الخيالية، لأن بضاعته تفوق أهميتها وشهرتها تجارة السلاح والمخدرات.

بعد ذلك الحوار مع صديقي الإيطالي، قرأت خبر إباحة الاستماع إلى الأغاني من أحد المشايخ في السعودية، وتابعت الثورة التي قامت عليه من زملائه وطلبته وأساتذته وكأنه قد ارتدّ عن الإسلام!

ثم خرجت فتوى تحريم كشف المرأة لوجهها وكفيها أمام النساء في الأعراس، وكانت من شيخ آخر، وبعده بأسابيع ظهر أحد المشايخ ليُفتي بجواز كشف المرأة لوجهها وكفّيها أمام النساء في الأعراس، في رد على الفتوى السابقة، ليعود أفراد المجتمع إلى سَكْرة التخبط بين تأييد فتوى هنا وإنكار فتوى هناك، وكانت الأكثرية (من جيل ما بعد الشباب) تميل إلى فتاوى التحريم، فتحول مبدأ «سكّن تَسْلم» إلى «حرِّم تَسْلم».

فالاعتقاد السائد هو أن يَتْرك المرء حلالاً لأنه يظنه حراماً، خير له من أن يأتي بحرام لأنه يظنّه حلالاً.. فآثر الناس الجهل بالحلال على العلم بالحرام، لتسود بعدها فوضى عبر الإنترنت والبلاك بيري، حتى لم نعد نعرف ما هو الحلال وما هو الحرام!

إن استخدام التحريم بكثرة في الآونة الأخيرة وضع المجتمعات المسلمة في أزمات نفسية واجتماعية، ولا تكاد تجد أسرة خليجية، إلا وتبنّى أحد أبنائها أو بناتها لمبدأ (التحريم الكلّي) ونصب نفسه رقيباً على أهله ورفاقه، يُخيفهم من كل شيء حتى من بعض العادات الاجتماعية التي نشأنا عليها، كاحتفال الأطفال بليلة النصف من شعبان (حق الليلة) التي خرج لنا من أصدقائنا من كنا نركض معه في ذلك اليوم الطفولي عندما كنا صغاراً لنجمع الحلويات، وبدأ يقول لنا بأنها بدعة ويجب تركها!

أعجبني كلام الشيخ أحمد بن عبد العزيز بن باز حول الذين يستخدمون كلمة «الثوابت» في محاولاتهم للسيطرة على المجتمع، وطلبه منهم أن يعرّفوا تلك الثوابت للناس، ليتضح الفرق بين ثوابت الدين وبين ثوابت بعض رجال الدين الذين يسعون لإلغاء التعددية في المجتمعات وإلباسها ثوباً واحداً، يناسبهم هم وقد لا يناسب المجتمع.

إن قوانين الفيفا لا تتغير بسرعة تغيّر الحلال والحرام عندنا في الجزيرة العربية، وعندما يريد القائمون على الفيفا إدخال تعديل ما في كرة القدم فإنهم يجرون دراسات وأبحاث مكثفة ويستمعون إلى آراء الخبراء ثم يقومون بذلك التعديل لكي يتماشى مع حاجة الفئة المستهدفة وليس مع حاجة الفيفا.

تكمن المشكلة عندما يستخدم البعض نفس الوسائل التي استخدمها قساوسة الكنائس في العصور الوسطى ضد كل من خالفهم الرأي، حيث كان كل من يناقش قساً أو أُسقُفاً يُعد مارقاً عن الدين ومهرطقاً، واليوم، لا يجرؤ أحد على انتقاد رأي شخص من أصحاب تلك الفتاوى المُربكة، إلا ورُمي بالعلمانية والزندقة، على الرغم من أن النقد موجه لرأي الشخص أو له نفسه وليس للدين.. وكأن التاريخ يعيد نفسه.

الإسلام شيء، والمتحدثون باسمه شيء آخر، فقد يُخطئ هؤلاء ويصيبون، وكُل امرئ يؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا القبر، كما قال الإمام مالك وهو يشير إلى قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.

أتمنى أن تشهد السنوات المقبلة اضمحلال فئة «هواة التحريم»، حيث أن الناس استطاعوا من خلال الإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال معرفة دينهم أكثر، وأدركوا بأنهم ليسوا مجبرين على سؤال أحد في كل صغيرة وكبيرة، على الرغم من سعي البعض لإقناع الناس بأنهم جهلة وعليهم السؤال دائماً.

عندما خرجت هذه الفتاوى آنفة الذكر، كانت المنظمة الأوروبية للبحث النووي بجنيف قد انتهت من استكمال أنبوب بطول 27 كيلو مترا يقع تحت الأرض بعمق 100 متر.

وبدأ العلماء بإطلاق مجموعة من الجسيمات الأولية بداخله لتصل إلى سرعة الضوء ثم تصطدم ببعضها على أمل إنتاج ما يسمى بـ «هيغز» وهو جسم أولي يعتقد العلماء بأنه أول ما نتج عن الانفجار العظيم الذي يحاول الأوروبيون محاكاته بالصوت والصورة، ولكن في داخل أنبوب، لمعرفة كيف نشأ الكون.. الفَرق شاسع، بين أمة مشغولة بالبحث في سر نشأة الكون، وبين أمة مشغولة بالبحث في جواز إظهار المرأة لوجهها وكفيها.

كاتب إماراتي

yasser.hareb@gmail.com