روسيا ومشروع الإمبراطورية الأوراسية

روسيا ومشروع الإمبراطورية الأوراسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك عقيدة راسخة لدى الغرب بأن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن طموحاتها الإمبراطورية، وأن هذه الطموحات راسخة في وجدان الشخصية الروسية، وهناك دفاع مستمر من جانب روسيا لنفي هذه الفكرة ومحوها من عقلية الآخرين، واعتبارها أحد أساليب الدعاية المضادة لروسيا بهدف تخويف الآخرين منها وإبعادهم عنها.

ولكن الحقيقة أن فكرة الإمبراطورية ليست بعيدة كل البعد عن العقلية الروسية، بل إنها موجودة في الكثير من الدراسات الثقافية والاجتماعية في المجتمع الروسي على مر العصور، ولا يمكن أن ندعي أنها ليس لها وجود الآن، ولكنها بالقطع ليست بالصورة العدوانية التي يصورها البعض.

بل إن هذه الفكرة يفرضها الواقع والتاريخ والجغرافيا، حيث تتمتع روسيا بموقع جغرافي غير عادي، يربط بين أكبر وأهم قارتين في العالم؛ أوروبا وآسيا، وتمتد حدودها وأراضيها الشاسعة من قلب أوروبا إلى أقصى نقطة في شرق آسيا.

وهذا الموقع ارتبط في التاريخ بعوامل مد وجذب مع القارتين بمختلف شعوبهما، فخرجت الثقافة والشخصية الروسية مزيجا من الثقافات المنتشرة في القارتين، ولهذا فإنه يمكن القول إن روسيا بحجمها الجغرافي والتاريخي والثقافي، تشكل في حد ذاتها إمبراطورية أورو ـ آسيوية، بعيدا عن مفاهيم الطموحات التوسعية والاستعمارية وتوجهات النفوذ والهيمنة التي يصورها الغرب عن روسيا.

إذاً، يمكن القول إن روسيا تأخذ شكل إمبراطورية قارية غير معلنة، وهذا الأمر ليس بالضرورة أن يولد طموحات التوسع والامتداد إلى أراضي الغير، بل على العكس، من المفترض أن يؤسس لتقارب أعمق بين روسيا من جانب، والدول الكبيرة والصغيرة المحيطة بها والقريبة منها.

هذا التقارب يحتاج إلى وجود عوامل هامة، منها وجود روابط ومصالح مشتركة بين روسيا وهذه الدول، ولو نظرنا إلى المحيط الإقليمي الروسي، سنجد أن أقرب هذه الدول التي توجد بينها وبين روسيا روابط ومصالح مشتركة، هي تركيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى.

وربما يتساءل البعض؛ إذا كانت بلدان آسيا الوسطى تقبل الخضوع للجارة الأم روسيا، فكيف لدولتين كبيرتين صاحبتي إمبراطوريات سابقة، مثل تركيا وإيران أن تقبلا بهذا الأمر؟ وكيف يخضع الفرس والترك المسلمون لهيمنة السلاف المسيحيين؟ وماذا لدى روسيا لكي تجذب هؤلاء أو غيرهم تحت جناحها؟

مثل هذه الأسئلة قد تكون لها أهميتها، إذا كان الحديث يدور حول إمبراطورية بالمفاهيم القديمة التي تسود فيها دولة على باقي الدول. ولكن المشروع الأوروآسيوي المطروح للبحث والدراسة حاليا في روسيا، لا مكان فيه لنموذج الإمبراطوريات القديمة، بل هو مشروع حضاري حديث يتواءم تماما مع الظروف المعاصرة، ولا مكان فيه لأية طموحات إمبراطورية توسعية.

ويمثل المشروع الأوراسي (الأوروبي ـ آسيوي) حاليا، أحد اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في روسيا. وقد ظهرت الفكرة الأوراسية في مطلع القرن العشرين، ثم باتت مطلوبة في بدايات القرن الحادي والعشرين، وذلك في ظل التوجه الغربي الأوروبي والأمريكي، نحو آسيا بطموحات توسعية جديدة، تثير الشكوك والمخاوف لدى الكثيرين من سكان هذه القارة الكبيرة.

ويؤكد أنصار المشروع الأوراسي أن الحضارة الغربية راكدة متعثرة، ولا تمثل الحضارة البشرية المشتركة، بل هي تقود البشرية إلى طريق مسدود. ومن وجهة نظرهم فإن كل محاولات التجديد والتحديث وفق السيناريوهات الأوروبية الغربية، كانت وستبقى مدمرة فتاكة بالنسبة للشعوب الأوروبية والآسيوية.

كما يعارض الأوراسيون النظريات الغربية الليبرالية، التي تعتبر روسيا جزءاً من أوروبا ملزما بالتوجه نحو الغرب، مشددين على أن رسالة روسيا كنواة ومركز للعالم الأوراسي، تتلخص أيضا في التصدي لتوسع الحضارة الغربية عالميا. وفي مواجهة هذا التوسع يطرحون مشروع ائتلاف للشعوب الأوراسية، بوصفه ضمانة للأمن الجماعي الإقليمي.

المشروع الأوراسي ليس غريبا على تركيا وإيران ودول آسيا الوسطى، بل هم على علم به وتدور حوله نقاشات ودراسات كثيرة في هذه البلدان. ويمثل المشروع الأوراسي اليوم إيديولوجية للتكامل الجديد في المجال ما بعد السوفييتي، وخصوصا في آسيا الوسطى والمركزية، ولتطوير علاقات روسيا مع إيران وتركيا.

واللافت أن أفكار المشروع الأوراسي تلقى اليوم انتشارا، بهذا القدر أو ذاك، لدى الأوساط السياسية في روسيا، رغم أن البعض يتصوره فكرة خيالية صعبة التطبيق. ولكن من كان يتصور أن دول أوروبا المتناقضة في الثقافات والحضارات، والمتصارعة على مر القرون، ستشكل بينها هذا الاتحاد الموجود الآن؟!

رئيسة المركز الروسي الحديث لاستطلاعات الرأي

mekhaelovna@mg.ru

Email