نشرت «البيان» في عددها الصادر بتاريخ الثاني والعشرين من يوليو، خبراً عن قيام مستشار في المحاكم بقبض رشوة من أجل التزوير في ملفات بعض القضايا.

والخبر في حد ذاته ربما لم يعد مستغرباً، في هذا الزمن الذي برز فيه الكثير من النفوس الضعيفة، وكثر فيه الفساد، بسبب تراجع القيم النبيلة والخيرة، وطغيان القيم المادية وروح الأنانية في الكثير من البشر. لكن الذي دفعني للكتابة حول هذا الخبر هو رمزية الوظيفة التي يشغلها اللص؛ المستشار.

لقد تزايدت في الفترة الأخيرة ظاهرة توظيف المستشارين في مؤسساتنا، وهم في الحقيقة أفراد تحتاجهم المؤسسات من أجل وضع خططها والتحلي برؤية شمولية ومدركة فيها، وبالتالي فهم يشكلون ركيزة مهمة من ركائز نجاح العمل.

لكن المشكلة ليست في وجودهم، أو بالأحرى في وجود بعضهم، إنما المشكلة الحقيقية تكمن في مدى أهلية بعضهم للعمل في مثل تلك الوظائف، وفي مدى قدرتهم على لعب الأدوار المطلوب منهم أداؤها.

سعى الكثير من مؤسساتنا المحلية لاستقطاب المستشارين، تدفعها إلى ذلك الرغبة في تطوير وتحسين أدائها، وأيضاً اكتساب سمعة جيدة محلياً وخارجياً حول تحقيق مثل هذه الأهداف، وبالتالي تنطلق تلك المؤسسات من نية حسنة حين تسعى لتعيين المستشارين، وهذا افتراض نضعه حتى لا ندينها في نواياها.

غير أن النتيجة التي نتلمسها أو لمسها الكثيرون منا، هي أن الغالبية العظمى ممن يشغلون وظيفة «المستشار» في مؤسساتنا العامة، هم في الواقع غير مؤهلين إطلاقاً لشغل تلك الوظائف، إذ هم لا تنطبق عليهم الصفة التي تم اختيارهم بناء عليها.

فالمستشار، كما هو متعارف عليه بشكل عام، هو شخص يفترض فيه أن يكون أكثر الأشخاص دراية بمتطلبات الجهة التي يشتغل في مجالها. بمعنى آخر؛ يشترط في المستشار معرفته الواسعة بطبيعة المجال الذي يعمل فيه، وأن يكون ملماً إلماماً كبيراً بمفرداته وتعبيراته وثقافته، إذ كل بيئة عمل أو مجال تخصص له أبعاد كثيرة وعميقة، وبالتالي يفترض في من يكون مستشاراً فيه الإلمام بكل خصائصه.

هذا هو أول الشروط التي يجب على المستشار التمتع بها. أما الشرط الثاني، وهو لا يقل أهمية عن الشرط الأول، فهو دراية ومعرفة المستشار بالمحيط المجتمعي الذي تعمل المؤسسة فيه.

وهذه المسألة تشترط، في ما تشترطه، معرفة طبيعة البيئة المجتمعية المتعامل معها المستشار وأشكال تعبيراتها الثقافية، أيضاً، وبالدرجة الأولى احترام تلك البيئة من خلال التمتع بحساسية إدراكية حولها، أي عدم الانطلاق من النظر إليها كبيئة قاصرة، أو الاستهانة بها وبما تمثله، بل تقديرها كبيئة إنسانية لها مرجعياتها وقيمها وقيمتها الثقافية.

أيضاً، مما يجب أن يتمتع به المستشار، اكتساب سمعة طيبة في المحيط أو البلد الذي قدم إلينا منه (كوننا في الغالب نوظف المستشارين من غير المواطنين، وهذه، على الرغم من كارثيتها، فإنها حقيقة لا نستطيع نكرانها).

إن تمتع المستشار بسمعة طيبة في بلده، يعطينا نحن المتعاملين دوماً مع محيطات واسعة، مصداقية أكبر حول اختياراتنا ورؤانا، حيث البعد الآخر لهذه المسألة يكمن في كون الشخص الذي يمتلك سمعة طيبة في بلده سيبقى، وإلى حد كبير، محافظاً عليها، وإن من منطلق أنه ربما يعود إليها يوماً ما، وبالتالي من المهم أن تكون له صورة ألقة فيها.

السمة الأخرى التي يجب على المستشار أن يتمتع بها، هي كونه أيضاً معروفاً في المجال الذي يتبوأ للعمل فيه، أي ممتلكاً لمعرفة وخبرة واسعة وعلم بيّن، بحيث لو احتاجت المؤسسة التي أخذته للعمل فيها إلى التعبير عن وجوده وإشراكه في أنشطتها، فلن تجد من ينظر إلى اختيارها بعين الريبة أو التشكيك، في حال لم يكن المستشار متمتعاً بسمعة علمية جيدة ولا بخبرة محترمة في مجال عمله.

كل هذه الشروط التي ذكرتها تعتبر من الأساسيات في عملية اختيار المستشار، وهي أيضاً من البديهيات التي يعرفها غالبية من يعرفون قيمة المستشار. لكن المشكلة التي تبرز في الغالب لدينا في هذا المجتمع، هي أننا نختار مستشارين لا تنطبق عليهم الشروط التي يجب عليهم التمتع بها.

فهم في كثير من الأحيان ليسوا الأفضل في مجالات تخصصهم، ولا يمتلكون الكثير مما ذكرت، مثل السمعة العلمية البارزة أو البروز في تخصصاتهم في الدول أو الأماكن التي عملوا فيها.

والجانب الآخر، وهو جانب مهم وخطير لو نظرنا إليه بما يستحق من أهمية، هو أن الكثير ممن يأتون أو يوظفون للعمل كمستشارين لدينا، ينظرون للبيئة المجتمعية التي يتعاملون معها وكأنها بيئة ضحلة وهامشية، أي أنهم ينظرون بدونية للبيئة المجتمعية التي يشتغلون فيها.

وهذا الأمر كثيراً ما نلمسه في أساليب تعاملهم مع القضايا التي يطلب منهم وضع تصورات حولها، حيث يخرجون لنا برؤى ساذجة وسطحية وبسيطة، وتعكس عدم التعامل بجدية أو بجهد حقيقي مع متطلبات أعمالهم، وهذه ممارسات تتجلى بشكل واضح في كثير من الأحيان، وتكشف لنا نوعية الأشخاص الذين يتم اختيارهم، وبشكل غير عميق أو دقيق في القضايا التي لها علاقة مباشرة بالنواحي العلمية والمجتمعية.

وتحضرني في هذا الموضوع حادثة، إذ أذكر أنني كنت أناقش مرة هذا الموضوع مع أحد المستشارين الأجانب في مؤسسة كنت أعمل فيها، ومن بين النقاط التي ذكرتها له أن الكثيرين ممن يعطون مسمى مستشار في مؤسساتنا، لا يفعلون أكثر من التحدث إلى الموظفين الموجودين قبلهم في المؤسسات التي توظفهم، ومن ثم صياغة الكلمات أو النقاط التي تعرض عليهم في ما يتعلق بتصورات الموظفين أو مشاكلهم التي يواجهونها في العمل.

وأيضاً رؤاهم حول سبل تطويره، ومن ثم تقديم تلك الرؤى للمسؤولين. ضحك المستشار لحظتها، وقال لي: «ألا تعرفين ما هو تعريف المستشار لدينا؟ إنه الشخص الذي يسرق ساعتك ليخبرك عن الوقت»، ولا أظنه كان مخطئاً، فالكثيرون منهم كذلك.

جامعة الإمارات

hessahlooth@gmail.com