إبان احتلالهم للجزائر، قام أحد الجنود الفرنسيين بتصوير لقطات في استوديو تصوير، لبعض النساء الجزائريات ممن يقعن خارج دائرة القبول المجتمعي بعد أن دفع لهن بعض المال، وأسمى تلك المجموعة من الصور «المرأة الجزائرية» ثم بعث بها، أي الصور، إلى فرنسا لتصبح بعد ذلك عبارة عن بطاقات بريدية سميت بالاسم الذي أطلقه المصور عليها.

العلامة البارزة التي ظهرت في تلك الصور، هي ظهور النساء بغير حجابهن المعروف عنهن في الجزائر، وفي بعض اللقطات ظهرت أجزاء من الاكتاف ومن الصدور، وهو ما أعطى للمتفرج فرصة النظر بحرية إلى تلك الأجساد واختراقها.

كان الدافع وراء العمل الذي قام به ذلك الجندي، كما تكشف الصور وكما ذكر بعض المحللين، ومنهم مالك علوله في كتابه «حريم الاستعمار» (باللغة الإنجليزية)، هو محاولة اختراق ذلك الستر الذي وضعته المرأة الجزائرية على نفسها، وتسيجت وراءه بعيدا عن نظرات الجنود الفرنسيين وغيرهم، مما شكل حالة من التوتر لدى اولئك الجنود، كونهم لا يستطيعون الكشف عما وراء ذلك الحجاب.

ولا معرفة التعابير التي تحملها تلك النساء ولا ما يخفينه تحت ثيابهن، في الوقت الذي كانوا يرون فيه استباحة الجزائر، أرضا وشعبا، حقا من حقوقهم الطبيعية.. أو لم تكن رؤيتهم للجزائر وقتها أنها جزء من فرنسا وأرض لهم مطلق السيادة والسلطة عليها!

ولم تكن تلك الصور التي التقطها ذلك الجندي الفرنسي لبعض النساء الجزائريات الفقيرات والمشتغلات بتأجير أجسادهن، إلا تعبيرا عن شكل من أشكال الشعور بالسيطرة والتملك للمرأة وللمجتمع الجزائري الذي كانت نساؤه يتدثرن بأحجبتهن حتى لا تنكشف أجسادهن أمام أحد، وخاصة أولئك الجنود الذين انتهكوا أرض الجزائر، وكان لا بد لذلك الجندي من الشعور بالانتصار على تلك الحواجز واختراقها والتفوق عليها، كشكل رمزي من أشكال الانتصار على ذلك المجتمع.

واليوم، عندما تستعيد النخب الحاكمة في فرنسا تلك الرغبة في اختراق حجاب النساء المسلمات، فإنها أيضا تستعيد بعضا من تاريخها الاستعماري المبني على محاولة التغلغل والسيطرة، لأن السيطرة فعل مرتبط بشكل ما بفعل الانتهاك، والحاجز أو الحجاب، شكل من أشكال التصدي التي تعزل الآخر وتضع حدودا للمسافة المسموح له باختراقها.

وحين تصل درجة التعامل مع الحجاب هذا المستوى على الصعيد السياسي والشعبي في فرنسا، «قلعة الحرية» كما كانت تسمى، وبلد الإخاء والمساواة كما يقول الدستور الذي بنيت عليه، فلا بد للمرء أن يتساءل عن مدى وكيفية المساحات التي تتجلى فيها تلك الشعارات، وخاصة حين يتعلق الأمر بالآخر، وتحديدا الآخر المسلم؟

إذ ليست التعبيرات الدائرة حول هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات، إلا شكلا من أشكال تجلي الخطاب الاستعماري القديم، والذي يظهر بين الحين والآخر في الدول الغربية بأشكال ونزعات مختلفة، أبرزها رفض الرئيس الفرنسي ساركوزي لدخول تركيا منظومة البلدان الأوروبية، خوفا على تحول أوروبا إلى الإسلام، أو زيادة نفوذ المسلمين فيها، كما تقول التحاليل والتصريحات المختلفة لبعض الأوروبيين وغيرهم.

ولو لم تكن لهذه المسألة كل هذه الأبعاد لما أثيرت، في اعتقادي، بكل هذا الحجم، لأن لبس الحجاب، لو كان مقتصرا على أمور تتعلق بالشكل العام المتفق عليه في البلد، لم تكن لتصبح بهذا الحجم، إذ ما الذي يضير فرنسا في كون أولئك النساء يتدثرن بأحجبتهن، وأنهن يرتدن الأماكن العامة وهن مختفيات تحت أسترهن؟

أليس الأمر متعلقا بكونهن فرضن ستارا على من يريد الكشف عنهن فأصبحن لا تخترقهن العيون وعصيات على الكشف والمراقبة؟ وفي حال ارتأت فرنسا أن لبس هذا النوع من الحجاب قد يشكل شيئا من التهديد للأمن المجتمعي فيها، ألم يكن الأجدى عمل دراسات ميدانية تقوم على تفحص أوضاع المسلمين والمهاجرين فيها، ومعرفة ما إذا كانوا فعلا يشكلون خطرا عليها.

وهنا لن يجدوا من يعارضهم، إذ حتى الإسلام إنما وجد ليمنح الإنسان بيئة تحترم إنسانيته وتعلي من شأنه. كما كان بإمكانها الاستعانة برجال من الدين الإسلامي، يعرفون حق المعرفة أن غطاء الوجه لم يفرضه الإسلام وليس من الدين، وإنما هو عرف اجتماعي اختار بعض فئات المجتمع المسلم التعامل به، لعزل نفسها عن فئات أخرى (وهناك أمم أخرى استخدمته لنفس الغرض).

إن فرنسا يعرفها العالم كجمهورية حملت الكثير من القيم الإيجابية للحياة، ومن يعرف فرنسا جيدا يعرف اسهامها الكبير في شؤون كثيرة من الحياة، سواء في الفلسفة أو الفنون أو العلوم أو غيرها، وجدير بتلك الأمة أن تحافظ على ما اكتسبته من قيم إيجابية في هذه الحياة، لا أن تصبح طيعة في أيدي رجال ينضحون بالتحيز لقيم الاستعمار والسيطرة، إذ، وبغض النظر عن الادعاءات التي قيلت حول مسألة محاربة الحجاب، فإن جوهرها لا يبتعد، في اعتقادي، عما طرح من تأويلات!

وهناك بعد فلسفي آخر لهذه المسألة، نحتاج حتى نقترب منه، إلى التعرف على ما يملكه البصر من مكانة في الفكر الغربي المعاصر، حتى نتمكن من فك شفراته.

فالغرب الحديث بنى مجمل معارفه المعاصرة على المراقبة والنظر، حيث أصبحت الملاحظة البصرية في جوهر العلوم والمعارف، وتراجعت البصيرة إلى درجة كبيرة في العلم الغربي الحديث.

وبغض النظر عن كون هذه المسألة، كانت تلقى بعض التصدي من قبل علماء لم يستندوا عليها كمرجعية مطلقة في معارفهم، إلا أن السيادة للملاحظة البصرية بقيت في مكان المركز بدرجة كبيرة، وما عدى ذلك يصبح علما قابلا للدحض أو عدم القبول، إلا عند قلة من علمائهم، بغض النظر عما تكشفه الدراسات الحديثة في بعض العلوم، مثل الفيزياء الكمية وغيرها مما يكشف عن قصور في هذه التصورات.

إن المعرفة والدلالة المعرفية تبقى مرتبطة بالكشف البصري في معظم العلوم الغربية المعاصرة، ومعرفة هذا البعد يقربنا أيضا من التعرف على جذور الفكر المادي، والذي هو مبني على الملاحظة والنظر وإثبات الوجود عن طريق التعرف إليه بصريا.

وهنا يتقاطع الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي المعاصر في كونه، أي الفكر الإسلامي، مرتكزا على البصيرة وعلى التفكر في أمور أكثر تجريدية وبعدا عن التجسد، وذلك لكون هذا الفكر مرتكزا على مرجعية غير مجسدة، ألا وهي وجود الله سبحانه وتعالى.

جامعة الإمارات