عندما يعلنها فيليب بريدن، المستشار الإعلامي في السفارة الأميركية في لندن، بلا مواربة، أن بلاده تهتم جدا بالإعلام البريطاني وتعرف كيف تتعامل معه، فإن الأمر يستحق قليلا من محاولة التقصي.
لماذا الإعلام البريطاني بالذات؟
ما إن تحط قدماك على أرض الولايات المتحدة، حتى يلازمك إحساس غريب، إحساس القادم إلى كوكب معزول ثقافيا وحتى معرفيا عن محيطه الأرضي، رغم أن حكومة «الكوكب الأميركي» غزت أربع جهات الأرض بجيوشها أو شركاتها أو وكلائها. فحتى في المطار الدولي، يبادرك موظف الجوازات بالسؤال: من أين؟ ترد: من الشرق الأوسط. يقول: وأين هو الشرق الأوسط؟ تقول مازحا بغية التقريب والتعريف ودرء تهمة النكرة: قرب العراق. فتصدر عنه فورا آهة الاكتشاف.
نعم، كل الخبراء والمسؤولين يرددون دوما لازمة «كل السياسات هنا محلية»، كناية عن قصر المواطن الأميركي دائرة معرفته داخل حدود الولايات المتحدة، حتى إذا سألته إن كان جاب العالم، فيبادر، إن كان من نيفادا مثلا، إلى القول: نعم لقد ذهبت إلى نيويورك.
هذا التقوقع النفسي مع طول السنوات والسياسات الحكومية، غدا ثقافة اجتماعية، لا تهتم لما وراء الحدود الأميركية، اللهم إلا إذا كان الأمر يتصل بالحياة الشخصية للمواطن الأميركي، من مثل حربي فيتنام والعراق، لأن التوابيت التي تصل إلى مطارات الوطن لها عائلات وجيران.
والحال كهذه، فإن الإعلام الإميركي يرتب أولويات النشر لديه طبقا ل«كل السياسات محلية»، فرفع أو خفض الضرائب سابق على حرب بين إسرائيل وحزب الله، والتأمين الصحي يستأثر بمنظومة الأميركي الحسية، أكثر من ستة ملايين مشرد فلسطيني. وعلى ذلك فان مجالات انتشار وتأثير الإعلام الأميركي محدودة، سوى بين فئة قليلة من العالم عاشت أو درست فترة ما في الولايات المتحدة.
من ورث أحلام الامتداد النفسي التاريخي لإمبراطورية حرقتها الشمس لفرط عدم غيابها، هو الإعلام البريطاني، الذي حقق شهرة ومصداقية كبيرة، جعلته أحد أهم مصادر المعلومات، وتاليا التسريبات المبرمجة.
إذن، مفهومٌ هذا الاهتمام الأميركي بالإعلام البريطاني، لغرض تلميع الصورة، أو تشويه صورة آخرين عبر حملات منظمة تصل في بعض أحيانها إلى الكذب ال«غوبلزي»، لكن ما هو غير مفهوم، أن كل خطط «تلميع الصورة» الأميركية منذ نهايات عهد إدارة جورج بوش الابن، تركزت في أوروبا ولم تلق بالا تجاه الإعلام العربي، بل إن حالات التعامل المحترم والجاد مع هذا الإعلام بقيت فردية وشخصية جدا، بينما في الغالب كان التعامل مع إعلامنا في منتهى الفوقية والسذاجة معا:
فمجرد الاقتناع بأن الإعلام العربي يلهث وراء تصريح من مسؤول أميركي، ومن ثم دفع هذا المسؤول إلى الإدلاء بتصريحات سياسية طفولية لا تضيف جديدا، هو أبرز صورة للتعالي الساذج.
لم ذلك؟
ببساطة لأن الإعلام العربي لم يبلغ من القوة درجة تمكنه من شن حملات موجعة على الساحة المحلية أوالعالمية، هذا من جهة، أما الجهة الأخطر، فهي أن هناك إعلاما رسميا محنطا يتكفل بما بقي من المهمة.