نشرت «البيان» في عددها رقم 10957 بتاريخ السادس من رجب لعام 1431هـ الموافق الثامن عشر من يونيو لعام 2010، صورة الرسم الكاريتي اليومي للرسام المعتمد لديها في هذا الباب وهو الرسام عامر الزعبي، وتمثل الصورة شخصاً عجوزاً بملابس تشبه ملابس الرجال الأفغان وعلى رأسه عمامة.
وقد كتبت على بطنه المتهدلة كلمة «أفغانستان» والعجوز جالس فوق صندوق برزت منه حلي وأدوات ذهبية.
ولعل الرسام هنا يتجاوب مع ما بثته وكالات الأنباء من معلومات حول اكتشاف ثروات طائلة من قبل قوات الغزو الأميركي في الأراضي الأفغانية، من بينها معدن الذهب، ذلك المعدن الذي سلب بريقه، وعبر التاريخ، ألباب الكثير من الطامعين والمغرمين بحب الدنيا والتفاخر بالثروات.
وليس تعنيني هنا المعلومات التي بني الرسم عليها، رغم أهميتها وخطورتها، ورغم ما ستجره على تلك الأرض من ويلات، بل الذي يعنيني هنا هو الرسم نفسه، وقد دعتني نفسي إلى ممارسة فعل التحليل البصري عليه، ليس للاستدلال على المعاني الواضحة، وإنما للغوص في الأبعد، فيما ليس على السطح، أو هو على السطح لكنه يسمح بالتأويل وبتعدد القراءات فيه.
وهذا النوع من التحليل يساعدنا على رؤية الأمور من زوايا عديدة، والتعرف على أوجه كثيرة بها ربما لا تمنحنا إياها القراءة العابرة، أو غير المتأنية، أو غير الدقيقة.
ولنعد لصورتنا، الموضوع، كي نقرأ فيها التفاصيل التي ضمنها إياها الرسام، سواء جاءت من الشعور أو اللاشعور.
ولنبدأ بالرجل الجالس فوق صندوق الذهب والذي أول ما نلحظه في ملامحه هو كبر السن، وهو أمر جلي في الصورة، وهذا يعني، في الغالب، أن وجود الرجل في هذه المرحلة من العمر يعكس قرب الرحيل، أي أنه شخص يقترب من الموت.
وجه الرجل في الرسم، وهو ما يرمز في الإنسان في واقع الحياة إلى صورته وعلامته البارزة التي يستقبل بها العالم أو يستقبله العالم بها، تبدو عليه، من النظرة المنخفضة والملامح شبه الواقعة على الصدر، ملامح غياب الشموخ، أو بشكل أدق ملامح ذلة.
العمامة على رأس الرجل العجوز خضراء باهتة اللون. ولأن للون الأخضر رمزية لدى المسلمين باللون المحمدي، وهذه علامة يعرفها المسلمون في جميع أنحاء الأرض، فإن في بهتانها هنا دلالة واضحة على رسالة في نفس الرسام، فهو ربما يريد القول بها أو من خلالها إن الغطاء الإسلامي على رأس هذا الرجل قد بدأ يبهت، أو لعله يريد قول شيء أبعد من ذلك! لكن لهذه الإشارة معنى بالتأكيد.
يد الرجل اليمنى ممدودة في الصورة بشكل يشبه مدّ أيادي المتسولين، وربما عنى الرسام هنا القول إن هذا المتسول يجلس فوق ثروة هائلة لا يعرف عنها شيئاً، أو أنه لا يعرف كيف يتعامل معها. أو ربما يكون الرسام قد أراد الوصول لمعنى آخر لم نستطع الوصول إليه.
يد الرجل الأخرى موضوعة على خاصرته، وهو وضع لا يتناسب مع حالة التسول، لو أخذنا بفرضيتنا الأول حول اليد اليمنى، فهذا الوضع يعني في الغالب التحدي أو المجابهة، أكثر من رمزه للانكسار أو الذلة، إذ هل رأيتم يوماً متسولاً يمد يداً إليكم والأخرى يضعها على خاصرته؟
البطن المرسوم والواضح للرجل في الصورة، فيه انتفاخ كبير وعليه كتبت كلمة «أفغانستان»، فما الذي ترمز إليه بطن هذا الرجل الكبيرة يا ترى؟ إن البطون المنتفخة في الرسم الكاريكاتيرية، هي في الغالب لها دلالاتها الرمزية، فهي ان جعلت للأثرياء، فإنها ترمز للوجاهة والعيشة الرغدة، فكيف يكون رمزها للفقراء؟
إن من المعروف ان الفقراء في الغالب يعانون من الأمراض لأسباب كثيرة، ليس مكانها هذه المساحة، لكن يهمنا المعنى الذي في الصورة، وهو على ما يبدو ينقل إلينا أننا أمام رجل مصاب بالترهل وسوء الصحة.
وحين نقرن هذا المعنى بالشكل العام للرجل، بما في ذلك شكل أرجله المتدلية والواضح عليها الهزال، نخرج بأننا أمام شخص عجوز، بائس قليل الصحة، وعلاوة على ذلك تخلو ملامحه عن السمو أو الشموخ وهي علامات لا ترتبط بالضرورة بقضية الفقر، إذ هناك فقراء شامخون.
الصندوق الجالس عليه الرجل لم يرسم الرسام الذهب فيه بشكله الخام، وإنما رسمه على شكل أشياء هي بين العقود والأدوات المنزلية، ومن بين الأدوات المنزلية المرسومة إبريق يشبه الأبريق الذي يرسم دوماً لحكاية «علاء الدين» أو المصباح السحري، وهو ما يدل على أن لهذا الإبريق الموجود ضمن هذا الصندوق بعداً آخر يقع في تخوم العالم الماورائي، عالم السحر والخيال والغيب.
أي أن لهذا الإبريق قيمة تتجاوز قيمته المادية، وذلك استناداً على ما هو موجود حوله في الذاكرة الشعبية من حكايات، وهذا ما يجعلنا نتصور أن هذا الابريق يتجاوز قيمته المادية إلى قيمة خرافية أو قيمة مطلقة.
الأشكال الأخرى من الذهب والمرسومة في الصورة، غلب عليها شكل الحلي التي تلبسها المرأة، من عقود وغيرها، وربما رأى الرسام، أو أنه يريد بذلك القول إن الحصول على هذه الثروة قد يقود من يستوي عليها إلى الاستيلاء على متع أخرى في الحياة.
ومنها اصطياد النساء ممن يشكل بريق الذهب طعماً خاصاً لهن. وهنا يضيف الرسام بعداً آخر لقيمة الذهب المنشود، وهو بعد معنوي أو يتصل بذلك.
في الصيغة النهائية التي قرأتها في هذه الصورة هناك التصور الذي يرى أفغانستان كرجل عجوز يقترب من نهاياته، وهو جالس فوق ثروة ربما لا يعلم بوجودها، أو أنه بالأحرى، كما يستشف من الصورة، لا يعرف التعامل معها وبالتالي فهو يمتهن التسول.
وربما أيضاً تشي الصورة، في لا شعور الإنسان، بأن هناك شيئاً من الحق يعطي لمن يريد ان يرث هذا الرجل، كونه لا يعرف التعامل مع ثروته، نفس الصيغة الاستعمارية القديمة التي تتجدد كلما تحولت أنظار الاستعمار من أرض إلى أخرى.
هذه هي المعاني التي استطعت، بما تيسر لي من معرفة في هذا المجال، أن استنبطها من هذا الرسم. ولعلنا لو خرجنا من هذا النطاق إلى نطاق واقع الأمر في أفغانستان، سنخرج بقراءات أخرى. لكنني فقط أردت ان أغوص معكم في بحر صورة استوقفتني، وأردت مشاركتكم في المعاني التي خرجت بها منها. ولعلكم في الحقيقة تملكون قراءاتكم الخاصة وتستنبطون معانيكم منها، ولنا بإذن الله مواعيد أخرى.
جامعة الإمارات