اليوم ألتقي بكم لأجدد وأؤكد أن لي مكاناً في هذا العالم الفسيح، وأن لي رأياً ووقفة وقضية، لي أن أشكر وأشيد، ولي أن أشكو وأنتقد، فنحن بطبيعة الحال بشر يفكر.. وكما قال نابليون يوماً: «إذا كفت الشعوب عن الشكوى فإنها كفت عن التفكير». هذه الحقيقة تتزعزع بين الفينة والأخرى بسبب ما أنا آتية لذكره.
اليوم أكتب في موضوع تورم نقاشا، موضوع تداوله الكتاب في الصحف والمجلات والمحافل الكبرى. قضية خليجية عربية بامتياز، أتحدث عنها اليوم باعتباري معنية بها، كوني طالبة تخرجت من المدرسة قبل نحو عامين، وذاقت من مر هذه الحقيقة وهذا الواقع الذي أتحدث عنه متأخرة، مع الأسف.
المناهج الدراسية في العالم العربي، لنا لقاء يومي معها، سهرنا وإياها كثيرا، وتأففنا ضجراً ومللاً من محتواها؛ وقد أضحت معضلة حقيقية يجب أن نجد لها حلا. قد تتفقون معي وقد تختلفون ـ بطبيعة الحال ـ ولكن لن تستطيعوا أن تتجاهلوا خطورة الموضوع ومدى تفاقم تبعاته وتداعياته.
علمتني المناهج الكثير، ولا ينكر ذلك إلا جاحد ومعاند.. درست اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والرياضيات، ولكني لم أحب أي مادة من تلك المواد يوما (وأنا هنا لا أعني تغيير المواد أو إلغاءها، بل أطالب بتغيير محتواها؛ أي جعلها أكثر بساطة وتشويقاً).
علمتني المناهج أين تقع بلادي، لكنها لم تعلمني أين أقع أنا من خارطة هذا العالم. عرفت كيف يفكر الآخرون ولم أعرف كيف أفكر أنا. درست اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة والنقد، لكني واجهت صعوبات شاقة حين أردت أن أكتب موضوع تعبير لأول مرة، وما زال الكثير من الطلاب يجهلون كيف هي لذة الكتابة، فأصبح الإنترنت ومنتدياته الملاذ الآمن من استفزاز القلم وعصيانه، وأصبحت هناك مواقع متخصصة لمواضيع التعبير المطلوبة في المناهج!
حفظت عن ظهر قلب قصائد العروبة والقومية العربية، لكني فعلاً ما زلت أجهل ما معنى وما أجمل أن أكون عربيا في أمة عربية شامخة رغم كل شيء. درست الفقه والتوحيد والحديث والتفسير، وتعلمت منها ديني الحنيف وأركانه وأخلاقه، لكنني لااعرف لماذا يزداد التفسخ في المجتمع والبعد عن الدين!
وما زلت أرتبك وأتلعثم حين يسألني غير مسلم عن الإسلام، فلا أعرف ماذا أقول سوى بعض الجمل التي يرددها الناس بلا تفكير كما أفعل: إن الإسلام دين السلام والمحبة والتعاون وكل المعاني الجميلة.
باختصار، ما زلت أجهل من أنا، وماذا أريد، وما هي موهبتي، وماذا أريد أن أكون في المستقبل. ولم أستطع أن أكتب هذه الكلمات أو أجيب عن تلك الأسئلة، إلا عن طريق القراءة والاطلاع المستمر المتواصل على الكتب والصحف وغيرها. للأسف فالتفكير انحصر في الحدود التي وضعتها المناهج الدراسية، فتكونت لدينا الصورة النمطية بأن سطور المناهج هي الخطوط الحمراء المحرم تجاوزها والأخذ والرد فيها.
ما أريد أن أصل إليه، هو أن الفكر البشري أغنى وأكثر قدرة ونشاطا مما جعلتنا أنظمة التعليم والمناهج نعتقد. كلنا لدينا مواهب بالفطرة، لكن «المناهج علمتنا أن لا نبدع»، كما يقول الدكتور طارق السويدان. كما أن مناهجنا لا تواكب العصر ومتطلباته إطلاقا.. غير ذلك، أنا أجهل حقوقي كإنسانة، فلم تعرفني المناهج على حقوق المرأة والطفل إلا ببضع صفحات جاءت مقصرة في حقي.
المناهج للأسف تقوض الإبداع وتحد منه كثيرا، فهي لم تعلمني حقيقةً سوى الحفظ، وكما يقال إن الحفظ هو آخر الملكات السبع ترتيبا، إذ يأتي قبله التحليل والمقارنة والاستنباط والاستنتاج وغيرها، لكني عرفت من المناهج والمدرسة أولاً والمجتمع ثانيا، أن المتفوق دراسياً هو من الموهوبين الذين تتسابق المدارس لتكريمهم، لأن التفوق الدراسي بمعناه الحالي هو التفوق بالحفظ وقوة الذاكرة، لا التفوق بملكات العقل وإبداعاته! وفي هذا تهميش لباقي الطلاب على اعتبار أنهم غير موهوبين.
يذكر الكاتب عبدالله الجمعة في كتابه الجميل «عظماء بلا مدارس»، بعض العظماء الذين كان لديهم ماض يشوبه الفشل والإخفاق المدرسي، فيذكر أن ألبرت أينشتين مخترع النظرية النسبية طُرد من المدرسة أكثر من مرة على اعتبار أنه فاشل ويعاني صعوبات تعلم، كما كان يأتي متأخراً في علوم الرياضيات ورسب فيها ثلاث سنوات!
وتشارلز دارون صاحب نظرية التطور كان يهرب من المدرسة ويتسلق الأشجار ويراقب قوافل النمل! أما لويس باستير مكتشف الجراثيم وطريقة البسترة، الذي سُمّي باسمه مركز أبحاث ضخم في فرنسا، فكان كثير السرحان لدرجة أنه صُنِّف كمريض بالذهان، وتوماس أديسون مخترع المصباح وأعظم المخترعين في التاريخ، اعتُبر غير قابل للتعلم!
وكذلك إسحاق نيوتن طرد من المدرسة، فلجأ حزينا تحت الشجرة التي سقطت منها التفاحة الشهيرة التي أدخلت العالم حقبة جديدة من الحضارة البشرية!
فنحن، وإن كان نداؤنا متأخرا، نطالب بمناهج أكثر مرونة؛ مناهج تطلق العنان للتفكير والإبداع الذي تحدث عنه الكاتب عبدالله الجمعة وذكر لماذا كل هذه الضجة حوله وما أهميته.
يجب أن نطور، بل إن نغير المناهج التي تحد من إمكانياتنا وطاقاتنا، كما فعلت أميركا واليابان وماليزيا وغيرها من البلدان المتقدمة، لأننا في عالمنا العربي لا نجد دعوات جادة لمثل هذا التغيير، بل إن كثيراً من المسؤولين يعارضون الفكرة، الأمر الذي يعزز ما يقوله البعض عن أن العرب لا يخوضون في التجارب الإبداعية إلا مع أواخر الأمم.
كاتبة سعودية
opinion@albayan.ae