يتكرر كثيراً ذلك المشهد، وذلك السيناريو الذي يُشاهد في أروقة المدارس، حول حكاية ذلك الطالب المتفوق صاحب الدرجات العالية والامتيازات الدائمة من المعلمين والإداريين في المدرسة، وهو ذو طبيعة خجولة وشخصية انطوائية، يخشى الضوء وتربكه التجمعات في الفسح والتكتلات الطلابية في الأنشطة اللامنهجية..
لا أفهم كيف لذلك الطالب الذي يحرز أعلى العلامات، ويتبوأ المراتب الأولى في جميع المواد، بما فيها مادة النحو والبلاغة والنقد، أن تكون أحاديثه متعثرة وجمله مرتبكة وغير واثقة.
بينما الطالب صاحب الدرجات المتدنية، والذي يثير غضب المعلمين غالبا وهو مصدر إزعاجهم وشكواهم الدائمة، قادر على أن يسحر الطلاب بأحاديثه الشيقة، وقصصه التي عادة ما تكون ذات نكهة خاصة وطعم لذيذ، وهو نفسه القادر على تحويل توبيخ المعلمين له إلى شيء مميز وطريف، وهو أيضا قادر على أن يقنع الجميع بأنه مميز ومؤثر ومحبوب، بجمله الأنيقة ولغة جسده الحاضرة التي تنساب مع كلماته.
إنه الطالب الأشهر صاحب الشخصية الكاريزمية التي يلتف حول مقعدها الطلاب ما أن يدق الجرس، هو من يتمنى الجميع أن يحظى بنصف ما لديه من سحر ذكاء غير مألوف. وأنا هنا لا أعمم، فهناك دائما استثناءات ولكل قاعدة شواذ بلا شك. السر في ذلك ما يسمى ب«الذكاء الاجتماعي»..
العلم الجديد الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية والمراكز المتخصصة في تطوير الموارد البشرية، وهو الذكاء الذي يختلف تماما عن الذكاء العملي والأكاديمي. الذكاء الاجتماعي هو القدرة على التواصل مع الناس، بمختلف خلفياتهم ونفسياتهم ومشاربهم.
والأشخاص الناجحون اجتماعيا، ومن لديهم مهارات اجتماعية عالية، يسخّرون طاقاتهم العقلية والبدنية للتواصل مع الآخرين وقراءة أفكارهم، وهم القادرون أيضاً على تكوين الصداقات والمحافظة عليها، كما يستطيع الذكي اجتماعياً أن يكون محاوراً متميزاً ومستمعاً جيداً، فهو من يدرك أن للإنسان أذنين وفما واحدا، لذلك عليه أن يستمع ضعف ما يتحدث، وهو نفسه القادر على إظهار اهتمامه بالآخرين، فنحن بطبيعتنا البشرية نهتم بالآخرين حين يهتمون بنا.
الذكاء الاجتماعي هو جواز سفرك اللامرئي واللاملموس، إلى عقول وقلوب الناس حول العالم، إنه الشهادة التي يمنحك إياها الناس لا المدرسة أو الجامعة.. إنه أسهمك الرابحة دائما، علاماتك المرتفعة أبدا، في التجمعات وليس على الورق.. إن الثقة بالنفس واللباقة والدبلوماسية في استخدام المنطق والحيلة، تكون أحيانا من أهم مقومات معززات الذكاء الاجتماعي..
فاستبدال المفردات المباشرة والمملة والجافة بأخرى رشيقة وخفيفة، واللجوء إلى التلميح بدلاً من التصريح، هو من الذكاء والحنكة التي قد توصلك إلى ما تطمح إليه بلا إصابات تجريح عاطفي، فذلك يضمن لك عددا أقل من الأعداء لنجاحك وتميزك، وهو يضمن لك علاقات أفضل مع الناس وحوارات أغنى وأكثر تشويقا، وبه تستطيع أن تلفت أنظار الجميع إليك، وتجعل نجمك يبزغ في الحفلات والمناسبات الاجتماعية.
يذكر لنا الدبلوماسي الفذّ الذي له تجربة طويلة ومثيرة بلا شك في التعامل مع الكلمات باحترافية وحذر؛ السفير السعودي السابق الدكتور غازي القصيبي، في كتابه «استراحة الخميس».
بعض الأمثلة في استبدال الجمل بأخرى أجمل وأذكى، حيث يقول:
«لا تقل: وزنك زاد.. وقل: صحتك تحسنت. ولا تقل: أنا غير موافق على رأيك.. وقل: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. ولا تقل: معلوماتك خطأ من أولها إلى آخرها.. وقل: استقيت معلوماتي من مصدر يختلف عن مصدرك. ولا تقل: ما هذه الكرافتة القبيحة؟.. وقل: أشهد بالله أن هذه الكرافتة فريدة من نوعها.
وفي التعامل مع النساء.. لا تقل: أنت متزوجة؟.. قل: متى بدأت سعادة زواجك. ولا تقل: عفوا، لا أتذكر اسمك.. قل: من يراك ينسى حتى اسمه. ولا تقل: لماذا لم تتزوجي حتى الآن؟.. وقل: مشكلة الرجال الرئيسية ضعف النظر».
إن الذكاء الاجتماعي ذكاء قابل للنمو والتطوير، يعتمد في المقام الأول على الثقة بالنفس والقدرة على الاهتمام بالآخرين، أو بالأحرى إظهار ذلك الاهتمام بطريقة أو بأخرى، فكم من العظماء الذين لم يكملوا تعليمهم الدراسي، لهم تأثير يفوق بمراحل متقدمة أولئك الحائزين جوائز عالمية وشهادات عالية من جامعات مرموقة؟
من منا لم يسمع بمقدمة البرامج الأولى في أميركا الملقبة بملكة البرامج الحوارية (أوبرا وينفري)، التي أسماها توني بوزان صاحب كتاب «قوة الذكاء الاجتماعي»، نجمة الذكاء الاجتماعي التي لها تأثير ساحر يسري في عروق الولايات المتحدة والعالم بأسره، فيعرض برنامجها في 112 دولة ويزيد عدد متابعيه على 132 مليون شخص في أرجاء هذه المعمورة، هي من يتقاضى راتبا سنويا يبلغ 225 مليون دولار نظير أسلوبها المميز وما تتمتع به من حس الفكاهة وما تظهره من اهتمام بضيوفها، الأمر الذي يجعل ضيفها يعطيها كل ما لديه، أو بالأحرى ما يريد أن يسمعه الجمهور.
وكذلك الحال مع «أدولف هتلر»، المتحدث الذي سحر الناس وكسب قاعدة جماهيرية عريضة في بلاده، بسبب شخصيته الفريدة وخطبه العظيمة وكلماته المتوقدة إلى جانب ذكائه العسكري الواضح.
يجب على كل شخص أن يحرص على تنمية ذكائه الاجتماعي الذي قد يؤمن له حياة أفضل، وفرصاً أقوى، وصداقات متنوعة عن طريق القراءة الواسعة في هذا المجال، والاطلاع على الدراسات التي تؤكد جدوى هذا العلم وتأثيره المباشر على حياة الفرد وصحته، على المدى القريب والبعيد.
لذلك أدعو المسؤولين في المدارس إلى الاهتمام بهذا الجانب، الذي يهيئ الطالب للتعامل بسهولة وانسيابية مع الحياة خارج أسوار المدرسة، ويقلل من حدة الاحتكاك وجروحه المتوقعة في الجامعة أو سوق العمل.
إن تنمية مهارات التواصل أضحت حاجة ملحة وليست مجرد زيادة أو ترف، وكما قيل: «كل ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح». لذا أقولها بثقة وإصرار: إن الذكاء الاجتماعي هو المفتاح السحري للنجاح والتميز.
كاتبة سعودية opinion@albayan.ae