هل هناك مستقبل للقومية العربية؟

هل هناك مستقبل للقومية العربية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تناولت في مقالات سابقة في هذه الصفحات، عوامل كثيرة تدعو للتشاؤم بمستقبل القومية العربية، منها ما يتعلق بتطور المجتمع العربي، والسياسات العربية، ومنها ما يتعلق بالمناخ الدولي والعلاقات العربية الدولية.

ولكن بالرغم من كل هذه العوامل الداعية للتشاؤم، لا أعتقد أن الوضع خال تماما من دواعي الأمل في مستقبل أفضل للقومية العربية، سواء نظرنا إلى الوضع الداخلي في العالم العربي، أو الوضع الدولي.

ولكن قبل أن أستعرض دواعي الأمل هذه، أود أن أعبر عن وجهة نظر قد تبدو غريبة في وسط جوّ مفعم بالتشاؤم.

إن من الممكن، في رأيي، للباحث عن سبب للتفاؤل بمستقبل القومية العربية، أن يجد أن المدهش في الوضع الراهن للعرب، ليس الفشل في تحقيق وحدتهم أو استمرار انقسامهم وتفرقهم، بل المدهش حقا أنه على الرغم من كل ما تعرض له العرب طوال المئة والثمانين عاما الماضية، أي منذ احتلال الفرنسيين للجزائر سنة 1830.

ثم احتلال الانجليز لعدن، وأكثر من دولة أوروبية، إلى تفريق متعمد بين الدول العربية، إلى تجزئة الدولة العربية إلى أكثر من دولة، إلى رسم حدود الدول العربية بحسب ما يحقق مطامح الدول الاستعمارية المتنافسة، إلى فرض كل دولة استعمارية لنظام للتعليم يقوم على تعليم لغتها دون غيرها من اللغات، ويرسخ الشعور بالولاء لثقافتها دون ثقافات غيرها.

وسياسة اقتصادية تفتح الأسواق لسلعها دون سلع غيرها، إلى غرس دولة غريبة في قلب الأمة العربية لا تكفّ عن العمل على وأد أي محاولة للنهوض في الدول العربية المحيطة بها، وعرقلة أي محاولة للوحدة بين هذه الدول.

المدهش أنه على الرغم من استمرار كل هذا لمدة 180 عاما، ما زال للشعور القومي العربي وجود على الإطلاق، وما زال أمل الوحدة يطوف بأذهان العرب بين الحين والآخر.

المدهش أن هذه الأمة التي تبدو وكأنها تمر بأحلك أيامها، وعلى الرغم مما يبديه حكامها من استهتار بالروابط القومية، بل ومقاومة للتيار الداعي إلى تقريب العرب بعضهم من بعض، واتخاذهم خطوات متتالية للتقارب مع إسرائيل، على الرغم من ذلك نجد صمودا يدعو إلى الإعجاب من جانب المجتمع المدني في رفض خطوات التطبيع مع إسرائيل، واستعداداً لتحدي الحكومات العربية من أجل مساندة ودعم الفلسطينيين.

على الرغم من جهود استمرت 180 عاما لتقطيع أوصال الأمة العربية، ما زلنا نجد الكتاب العربي يصدر في الجزائر أو تونس، فيقرأه أهل الخليج، وما يكتبه الشاعر الفلسطيني أو السوري يتحول إلى أغنيات يتغنى بها المصريون والسودانيون.

هذا الصمود المدهش في مواجهة عوامل التفتيت والتفريق، يدل في رأيي على قوة كامنة في أعماق الشخصية العربية، ومستمدة من حضارة ثرية تستند إلى لغة عبقرية. هذه القوة الكامنة في الشخصية العربية أعتقد أن أعداء الأمة العربية يدركونها جيدا، وإن كان يطيب لهم أن ينكروها وأن يُعلموا العرب التنكر لها.

هناك أيضا في العالم الخارجي تطورات مهمة قد تدعو للتفاؤل بمستقبل القومية العربية. إن العالم في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، يبدو مختلفا جدا عما كان عليه عندما تلقت التجربة الثالثة للحركة القومية العربية تلك الضربة الفادحة في 1967.

لقد مضى على تلك الضربة الفادحة ما يقرب من نصف قرن، أخذ مركز الثقل خلاله ينتقل بالتدريج من الغرب إلى الشرق، وتهاوت خلاله بالتدريج زعامة الولايات المتحدة للعالم، بعد أن كنا نظن منذ عشرين عاما فقط أنها قد أصبحت الآمر والناهي الوحيد في العالم.

إن تدهور المركز النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي لابد، عاجلا أو آجلا، أن يؤدي إلى تدهور مركزها السياسي والثقافي. لقد استمرت الولايات المتحدة خلال نصف القرن الماضي كله، في تقديم العون والدعم لإسرائيل، التي استخدمت هذا العون والدعم في قهر العرب وضرب القومية العربية.

ولهذا فإنه لا يسعني إلا أن أستبشر خيرا بتدهور مركز الولايات المتحدة، اقتصاديا وسياسيا، وأجد فيه بصيص أمل، مهما كان ضعيفا، في انتعاش القومية العربية.

كتب المستشرق «فون غرونا باوم» مرة أنه «حينما تخضع أمة لسيطرة ثقافة غريبة عنها، فإن نهضة الأمة المغلوبة وإحياء ثقافتها يتوقفان على إصابة الأمة الغالبة بالضعف والانكسار، أكثر مما يعتمدان على عوامل ذاتية في الأمة المغلوبة نفسها». فإذا كان هذا صحيحا، فإنه قد يبعث في نفوسنا بعض الأمل في مستقبل القومية العربية.

ومع ذلك فإنه من المؤكد أن من الحماقة أن نبالغ في تعليق الآمال على تدهور أمة أخرى. إن تاريخ القومية العربية نفسه، يعلمنا أن العرب يمكن أن تتداولهم دولة استعمارية بعد أخرى، دون أن يحرزوا تقدما يذكر نحو تحقيق آمالهم. والأمل لا بد أن ينعقد في نهاية الأمر على ما يفعله العرب بأنفسهم.

كاتب ومفكر مصري

sgsaafan@aucegypt.edu

Email