تعاسة عبيد المال

تعاسة عبيد المال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الناس في الدنيا أصناف تختلف في علاقتها بالمال، فمنهم من لا يشكل المال جزءاً كبيراً في اهتماماته، سواء رزقه الله منه الكثير أو القليل، وربما يكسل أو يتكاسل عن طلبه حتى لتلبية الحاجات الضرورية له ولأسرته.

ومنهم من يحرص على المال حرصَ الموشك على الغرق في البحر على الحياة، سواء أكثُر ما لديه منه أو قلّ، إنه يراه دائماً قليلاً ولا يكفيه، ويسعى للاستزادة منه على الدوام، فيفني حياته دون أن يتمتع بها، لاهثاً خلف ما لا يشبع منه طالبُه المنهوم.

من الناس من يقدّر المال قدره الذي يستحقه، لا يزيده ولا ينقصه، وذلك بأن يدرك أنه ضروري له، ولا يمكن لأي منا أن يعيش حياة طبيعية، إن لم يتوافر له قدر مناسب من المال بحسب طبيعة المكان الذي يعيش فيه، لأن ما هو مناسب في مكان ما من الممكن ألا يكون مناسباً في غيره، بزيادة أو نقصان، المهم أن يكون ما لدى المرء من المال مناسباً لتوفير المتطلبات الحياتية الضرورية في المكان الذي يقطنه، دون زيادة ولا نقصان.

ربما تمثل هذه الفئة الحالة الطبيعية لعلاقة الإنسان بالمال، لا إفراط ولا تفريط، إلا أننا لا يمكن أن نزعم أنها هي الفئة الغالبة في مجتمعنا، ولا أستطيع أن أزعم كذلك أن أياً من الفئتين الأخريين هي الغالبة، إلا أن الفئة المعتدلة إن كانت هي الغالبة فسيكون هذا هو الوضع الطبيعي الذي لا يحتاج إلى أن نقف عنده.

ولكن الواقع يقول غير ذلك، وربما كان الناس في وقت من الأوقات يرضون بأن يبذلوا ما يستطيعون من جهد وأن يحصلوا على مقابل له، دون أن يضعوا في أذهانهم تصوراً أو تقديراً له، فيقبلون ما يُعطونه مقابل جهدهم بنفس راضية، إن كان مناسباً بشكل تقريبي ولا يبخسهم حقهم بشكل واضح.

ربما أيضاً لم تكن الأموال موجودة ومتوافرة بهذا القدر الذي نجده في أيامنا هذه، لذلك كان القليل كافياً، ومتطلبات الحياة أقل تفصيلًا وتعقيداً، لذلك كانت كلمة «الحمد لله» تتردد كثيراً على الألسنة، ولكنها كانت تخرج من القلب مباشرة.

أما اليوم فمتطلبات الحياة الكثيرة والمعقدة، أصبحت أكثر من أن يستطيع أي إنسان أن يجاريها دون أن يلهث معها خلف كل شيء حوله يراه ويتمنى الوصول إليه. المشكلة ليست في من لديه القدرة على توفير كل ما يحتاجه هو أو أفراد أسرته، فيفعل ذلك بطيب نفس، المشكلة في أولئك الذين يسعون لجمع المال باسم الغلاء وصعوبة الحياة وغير ذلك.

ويستلذون بإضافة الدرهم إلى الدرهم، وكنزه وتكديسه في أماكن لا يستطيعون ـ هم بأنفسهم ـ الوصول إليها بسهولة، كي يقللوا من احتمالات لمسها أو صرف شيء منها، حتى إن كان ذلك على حساب احتياجاتهم واحتياجات أفراد أسرهم!

منهم من يقوم بأكثر من ذلك شناعة، وهو ألا يبالي بطرائق حصوله على هذا المال الذي يستميت في الحصول عليه والحفاظ على بقائه بحوزته. المهم عنده فقط هو جمع المال، بغض النظر عن الطريقة، حتى إن كانت من أكثر الطرق التواء أو بعداً عن الطريق القويم.

بعضهم لا يتوانى عن إذلال نفسه كي يحصل على بضعة دراهم من الآخرين دون وجه حق، إلا أنه يرى لنفسه حقاً على جميع من حوله، ويعتقد أن على الجميع أن يعطيه مما رزقه الله، لأنه أكثر استحقاقاً منه، أو أكثر تميزاً، أو أكثر ذكاءً، أو لأي امتياز يدعيه لنفسه كي يبرر لها استهانته بها في سبيل حفنة من الدراهم لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن فعلتْ فقد أسقمت النفس حين جردتها من كرامتها للحصول على دراهم أفنته وأرخصته قبل أن يفنيها ويرخصها.

وليته بعد كل هذا يرضى أو يتمكن من العيش مرتاح البال، إنه قد يرضى في الوقت الذي يُعطى فيه، ولكن السخط يعود إليه مباشرة بمجرد أن يتوقف العطاء، وقد صدق رسولنا الكريم، عليه صلوات الله وسلامه، حين قال: {تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يَرْضَ}.

إنهم فعلاً تعساء، وينثرون التعاسة على من حولهم بمجرد وجودهم بينهم، لأنهم أصبحوا مرتبطين بالمال في صورته السوداء الداكنة، كشكل من أشكال التكالب على الدنيا، مصحوب بهدر الكرامة وإراقة ماء الوجه.. بدلًا من أن يكون مصدراً لراحة الإنسان والحفاظ على كرامته.

جامعة الإمارات

sunono@yahoo.com

Email