لا يمكن أن نقرأ الانتخابات العراقية ما لم نعد إلى «كليلة ودمنة». يعلمنا هذا الكتاب أن الأسد ليس بحاجة للجوء إلى الحيلة، لأن قوته ترفعه عنها، لكن لو هدده واحد من جنسه يراه أشد قوة، أو أضعفه الهرم وعجز عن تأمين عيشه، فلا سبيل له إلا التسلح بالحيلة؛ الوسيلة الوحيدة للبقاء. فالأسد لا يتكلم، ولكن إذا واجه صعوبة، يفوّض القول إلى حاشيته:

هكذا يبدو سيداً على الخطاب. الانتخابات العراقية «نزيهة» ما دام الأسد منتصراً، وإذا ما تجاوزه منافسه الأسد الآخر، فهي «مزورة». هكذا تتحول لعبة الانتخابات التي اخترعها الأميركيون ـ إلى حيلة، تسعى في جوهرها إلى شرعنة الاحتلال.

عندما يتم انتخاب أحد المرشحين إلى الرئاسة في الديمقراطيات العريقة، يقوم بالانسحاب من حزبه، فعلى سبيل المثال، عندما انتخب فرانسوا ميتران رئيساً للجمهورية الفرنسية، استقال من حزبه الاشتراكي، ليصبح رئيساً لجميع الفرنسيين.

ولكن حالة ديمقراطيتنا ليست كذلك، فعلى الرغم من إنفاق ملايين الدولارات من أجل تحديث مفوضية الانتخابات، لكن دون جدوى، لأنه لا توجد أسس حقيقية للنزاهة والشفافية منذ البداية، حيث ظلت المفوضية مرتبطة برئاسة الوزراء، وما يمليه ذلك من التزامات، حتى وإن هي حاولت الادعاء بغير ذلك.

تزعزع عرش المالكي، ومعه جميع الأحزاب الطائفية، وجاءت نتيجة الانتخابات مخيبة لآماله؛ لأن المنتصر رجل علماني معروف يدعى إياد علاوي، الذي اكتسح الأحزاب الطائفية.

وحتى الذين لا يحبون هذا الرجل، صوّتوا له، بعد أن أدرك الشعب العراقي فشل الأحزاب الطائفية في إدارة دفة البلاد، بل ونهبت كل خيراته، بحيث إن الفساد الإداري أصبح ظاهرة تعتني بأرشفته الأمم المتحدة.

راهن الكثيرون على الاحتفاظ بسدة الحكم، في ما جاءت النتائج لتقلب الحسابات، في الوقت الذي لا يؤمن فيه القادة بالتداول السلمي للسلطة، وكلٌ يفترض بأن سفينة العراق ستغرق من دون انتخابه. لذا سيكون الصراع شرساً. في ما تؤكد قواعد اللعبة أنه لا يوجد فائز مطلق، لكن لا أحد له القدرة على القبول بالخسارة.

في فرنسا مثلاً، جرت انتخابات إقليمية مؤخراً، وخرجت النتائج في اليوم نفسه، تقبّل فيها الخاسر رفض الناخب له، وبدأ الفائز يتحدث عن مصلحة وطنية، وهذا ما لم يحدث عندنا.

كان من المفترض أن تحافظ المفوضية على سرية النتائج وإعلانها مرة واحدة، عوضاً عن هذا التقسيط الممل، وكأنه أريد لها أن تصبح مسلسلاً تركياً مدبلجاً إلى اللغة العربية، تصاعد فيها التوتر الدرامي، ثمة قوى وطنية وعقلانية وجدت أن أصواتها قد سرقت بعد منتصف الليل، دون أن يثير ذلك قلق المفوضية، التي تراقب فقط نمو الحيتان الكبيرة، متناسية أن اللاعب الحقيقي هو الذي يطرح مشروعاً وطنياً، لا أجندات مرقعة مرحلياً.

قد يحدث للأسد أن يستمع للحكايات، غير أنه لا يروي الحكايات أبداً. وما حاجته إلى السرد والبحث عن الإقناع في حين أن بمقدوره بخبطة من كفه إهلاك مخاطبه؟

هكذا يعلّمنا كتاب كليلة ودمنة، في حين فهم المتفرجون الأميركيون قواعد اللعبة بأن أي فائز من قائمة الانتخابات سيكون حليفاً لهم ويبارك معاهدتهم الأمنية، في ما ينتظر الناخب العراقي صيفاً ساخناً تصل درجة حرارته إلى أكثر من خمسين درجة في الظل، أقصد في ظل نتائج الانتخابات العراقية طبعاً.