سرد فريد زكريا في كتابه عالم ما بعد أميركا حادثة تاريخية يقول لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار من قبل المؤرخين في حالة محاولة فهمهم لعالم القرن 21، تدور أحداث هذه الحادثة حول جزيرة تسمى بارسلي (وتعني البقدونس)، يقول إنه في عام 2002 ثارت أزمة حول ملكية الجزيرة بين المغرب واسبانيا .

حيث يوجد نزاع قديم بين البلدين حول السيادة عليها، وعلى فكرة تعتبر الجزيرة غير مأهولة ـ باستثناء بعض الماعز ـ ولا يوجد فيها شيء مزدهر سوى البقدونس البري ومن هنا اشتقت اسمها، بدأت الأزمة بين البلدين عندما قامت المغرب في العام المذكور بإرسال اثني عشر جندياً إلى الجزيرة وقامت بغرس العلم المغربي هناك، مما دعا الحكومة الاسبانية للرد بقوة على الاعتداء المغربي.

حيث قامت بإرسال 75 جندياً اسبانياً على الجزيرة وقاموا بإنزال العلم المغربي ورفع علمين اسبانيين بدلاً منه وإرسال المغاربة إلى بلدهم، قوبل هذا التصرف بتنظيم العديد من المظاهرات والاحتجاجات وتطلب الأمر تدخلاً خارجياً يحتم إرجاع الأمور إلى نصابها.

ورغم وجود الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول صديقة أوروبية مثل فرنسا التي تربطها علاقات جيدة مع كلا الطرفين إلا أن القضية لم تحل إلى أي من هذه الجهات،وأحيلت إلى واشنطن، ويعلق كولن باول وزير الخارجية في تلك الفترة بشيء من الدعابة: «ظللت أفكر في نفسي، ما علاقتي بكل هذا؟

لماذا نحن ـ الولايات المتحدة ـ في قلب المسألة؟» المهم حُلت المسألة عن طريق الولايات المتحدة أما عن الوسيلة فيقول بأول: «قررت أن أضغط من أجل التوصل إلى تسوية سريعة، لأنني إن لم أفعل، فإن الشعور بالكبرياء سيسيطر وتتصلب المواقف ويزداد الأشخاص عناداً. «كان المساء قد حل على البحر الأبيض المتوسط، وأحفادي كانوا سيأتون من أجل السباحة»!

لذا، كتب بأول مسودة اتفاق مستخدماً حاسبه المنزلي، وحمل كلا الطرفين على القبول بها، ووقعها بنفسه عن كليهما، ثم أرسلها عبر الفاكس إلى اسبانيا والمغرب، وافق البلدان على ترك الجزيرة خالية والبدء بحوار حول وضعهما المستقبلي في الرباط. كما قام كلا البلدين بإصدار بيان شكرتا فيهما الولايات المتحدة على المساعدة على حل الأزمة، وعندما حل المساء حلت القضية المتنازع عليها وذهب كولن باول للسباحة مع أحفاده.

صحيح أن هذه الحادثة تعتبر صغيرة ولكنها موحية لسببين، الأول في الطريقة البسيطة والسريعة والسهلة في آن واحد لحل النزاع والثاني بأن رغم أن واشنطن لا تمتلك مصالح في مضيق جبل طارق ولا تملك نفوذاً خاصاً على اسبانيا أو المغرب بعكس الاتحاد الأوروبي ولا يمكنها التحدث باسم المجتمع الدولي بعكس الأمم المتحدة لكنها كانت البلد الوحيد القادر على حل النزاع والإجابة على السؤال الأول والثاني يتمثل في سبب جوهري وبسيط للغاية لأنها القوة العظمى الوحيدة في عالم أحادي القطبية.

ولكن اليوم بعد الأزمة العالمية المالية الواقع يشير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد هي القوة الوحيدة المهيمنة على العالم والقادرة على إدارة شؤونه بنفسها وإنما هناك قوى جديدة بدأت تبرز أو كما سماها زكريا بنهوض البقية أي أن هناك قوى جديدة بدأت تبرز على الساحة الدولية تستطيع أن تقول لا وتستطيع إن قالت لا أن تعرقل الكثير من الأوضاع على الولايات المتحدة.

هذا لا يعني أن الهيمنة الأميركية ستتلاشى بل ان ما سيحدث هو مجرد تراجع نتيجة بروز قوى جديدة ناهضة. فروسيا وإن لم تعد وريثة العرش السوفيتي في إدارة شؤون العالم إلا أنها أصبحت اليوم قوة تستطيع إلحاق الضرر بالهيمنة الأميركية وعرقلة استمرارها، كما أن الصين قوة أخرى مهمة في النظام الدولي وقادرة على أن تكون منافسا للولايات المتحدة ولو كان ذلك في نطاق جغرافي معين.

فالعلاقات الدولية تدار بالمصالح كما علمتنا أدبيات السياسة والدول تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق مصالحها في معادلة يحكمها مبدأ الربح والخسارة؛ فليس من الغريب أن نجد بعض الدول الناهضة تتبع سياسات لا تتماشى مع ما تريده واشنطن كما هو الحاصل مع روسيا والصين بالتحديد.

في ظل مثل هذه المعادلة تبرز الحاجة الماسة للولايات المتحدة بأن تعيد ترتيب مكانتها الدولية في نطاق إستراتيجية جديدة قوامها إشراك الأطراف الأخرى الناهضة وليس الاستمرار في معاداتها من خلال الاستمرار في المنافسة معها.

فعلى سبيل المثال جاء الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما ببوادر تشير إلى رغبة في تبني مثل هذه الإستراتيجية إلا أن استمراره في المواجهة والمنافسة مع بعض من تلك الدول الناهضة كالصين إنما يثير الكثير من التساؤل.

الصين دولة محورية في خطط أية دولة رئيسية لتسيير أمورها في العالم خاصة الولايات المتحدة المليئة الانخراط بالقضايا الدولية.

لكن يتعجب الواحد عندما يجد أن الولايات المتحدة مازالت تتبع إستراتيجية التنافس في علاقتها مع الصين من خلال بيعها السلاح لتايوان واستقبالها للزعيم الروحي للبوذيين الدلاي لاما.

مثل هذا الأمر قد لا يكون مؤشر على رغبة أميركية نحو صياغة إستراتيجية جديدة قوامها المشاركة مع الآخرين بل الاستمرار في إستراتيجية الهيمنة وهو الأمر نفسه الذي حذر منه فريد زكريا عندما قال بأن عدم مشاركة القوى الناهضة من قبل الولايات المتحدة سيؤدي إلى تراجع للهيمنة الأميركية في العالم.

وأنا أكتب هذا المقال تبادرت إلى ذهني بعض الأدوار التي تؤكد أن عالم اليوم أصبح ملك الجميع وليس حكراً كما كان لمجموعة من الدول أو لقطب واحد، فدبي على سبيل المثال احتكرت خلال الأعوام الأخيرة ولازالت أهم أخبار محطات الإعلام منذ فترة بسبب الأزمة المالية العالمية.

ولاحقاً بسبب نجاح جهازها الأمني في التصدي لإحدى عمليات الموساد التي نفذت على أرضها، تركيا كذلك مازالت حديث الأوساط الإقليمية والدولية كقوة إقليمية قوية في المنطقة، دول جنوب شرق آسيا بعد أن كانت تصرف روشتات انتكاساتها المالية من الغرب والولايات المتحدة أصبحت اليوم أحد أهم الفاعلين الاقتصاديين الدوليين.

حتى مظاهر الخجل والحياء التي كانت تلتحف محيا كلاً من الصين والهند أصبحت تزول، فالجميع نضج وأصبح أكثر ثقة بالنفس عما كان عليه، إذاً لا بد أن تعي الولايات المتحدة الأميركية درس نهوض الآخرين جيداً.

كاتبة إماراتية

F_mansouri78@hotmail.com