الأخلاق والسياسة

الأخلاق والسياسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

جون ستيوارت ميل (J. S. Mill) كاتب ومفكر انجليزي شهير، قدم مساهمات عظيمة لعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الأخلاق، ودافع بفصاحة وقوة عن حرية المرأة (في وقت كانت الانجليزيات فيه ما زلن محرومات من حق الانتخاب والترشيح للبرلمان)، وكتب كتابا بديعا في السيرة الذاتية يعتبر من الكتب الكلاسيكية في هذا النوع من الكتب.

معظم كتابات «ميل» كتبت ونشرت في الربع الثالث من القرن التاسع عشر، أي منذ ما يقرب من قرن ونصف، وأريد اليوم أن أكتب عن موقفه من قضية مهمة شغلت عشرات المفكرين والكتّاب طوال القرنين الماضيين، وما زالت تشغلهم، وهي قضية المقارنة والمفاضلة بين الرأسمالية والاشتراكية.

كان «ميل» في فكره الاقتصادي ينتمي إلى المدرسة الانجليزية المعروفة باسم المدرسة الكلاسيكية أو التقليدية (Classical)، وكانت تنادي بالحرية الفردية في السلوك الاقتصادي، وترفض وتعادي أي دعوة إلى الاشتراكية وتدخل الدولة في الاقتصاد.

لقد تربى جون ستيوارت ميل وترعرع في ظل هذه المدرسة، وتشرب أفكارها منذ نعومة أظافره، ولكنه، لأنه كان أصغر مؤسسي هذه المدرسة سنا، شهد نمو الفكر الاشتراكي، وعاصر انتشاره واتساع دائرة تأثيره، كما شهد نمو قوة نقابات العمال، فكان من الطبيعي أن تترك الأفكار الاشتراكية في تفكيره أثرا أقوى مما تركت في تفكير من سبقه من اقتصاديين عظام، كآدم سميث ومالتس وريكاردو، ووالد جون ستيوارت ميل نفسه، وهو جيمس ميل (James Mill).

من الطريف ما نلاحظه مما طرأ من تغير وتبدّل في موقف ستيوارت ميل وهو يفاضل بين الرأسمالية والاشتراكية. ففي الطبعة الأولى من كتابه الشهير «مبادئ الاقتصاد السياسي» الذي ظهر في سنة 1848، أي نفس السنة التي ظهر فيها البيان الشيوعى لكارل ماركس وفردريك انجلز، عبّر «ميل» عن رأي المدرسة التقليدية المعروف، من رفض الاشتراكية والدعوة إلى سحب الدولة ليدها من الاقتصاد. ولكنه في طبعة تالية للكتاب عبّر عن تعاطف مع الاشتراكية، غير مألوف من كاتب من أتباع آدم سميث وريكاردو.

كان «ميل» يجد بعض الجاذبية في اعتماد الاشتراكية على وازع أخلاقي محض، وهو خدمة المجموع، بالمقارنة بالاعتماد على دافع الفرد إلى تحقيق أقصى ربح لنفسه، وهو الدافع الذي يفترضه النظام الرأسمالي ويشجعه.

كان تعاطف «ميل» مع الاشتراكية، ولو لدرجة ما، يرجع إذن إلى اعتبار أخلاقي محض، وهو تغليب مصلحة المجتمع ككل، على الدافع الأناني الذي ينظر إلى المجتمع كغابة تتصارع فيها الرغبات الفردية، وتكون الغلبة فيها في النهاية للأقوى، لا للأفضل.

المدهش أن جون ستيوارت ميل عاد من جديد في طبعة تالية، وتراجع بعض الشيء عن تعاطفه مع الاشتراكية، وانتهي إلى القول بأن الاشتراكية، وإن كانت هي النظام الأفضل من نواح عديدة، فإنها لا يمكن أن تحقق الآمال المعقودة عليها حتى يحدث تغير مهم في الطبيعة الإنسانية، بحيث يصبح الفرد مستعدا لأن يضحي أحيانا بمصلحته الخاصة في سبيل المصلحة العامة.

هكذا انتهي الأمر مع جون ستيوارت ميل، ولكن ظل المفكرون من بعده ينحازون إلى هذا النظام أو ذاك، ونُسيت تماما ملاحظة «ميل» عن الطبيعة الإنسانية.

عدت مؤخرا إلى تذكر موقف جون ستيوارت ميل من الرأسمالية والاشتراكية، عندما وقعت يدي على مقال قديم للكاتب الانجليزي الأثير لديّ (جورج أورويل George Orwell)، عندما كنت أقلب صفحات إحدى المجلات الأربع التي تضم جميع مقالاته الصحفية والأدبية وخطاباته، التي كتبها في الفترة ما بين 1920 و1950 (والتي نشرتها دار بنجوتين سنة 1968).

وجدت بين هذه المقالات والخطابات مقالا كتبه أورويل سنة 1944، أي منذ أكثر من ستين عاما، ويعرض فيه رأيه في كتابين كانا قد ظهرا حديثا، ويتعرضان لهذه القضية التي تناولتها حالا، أي المفاضلة بين الرأسمالية والاشتراكية. وجدت على هامش هذا المقال ما يدل على أني سبق أن قرأته، إذ أني كتبت على الهامش «مقال ممتاز وهام جدا».

أعدت قراءة المقال، فوجدته فعلا ممتازا، وفهمت سبب وصفي له بأنه هام جدا. فالكتاب الأول الذي يعرضه أورويل من تأليف أستاذ شهير هو الأستاذ ف. هايك (F. Hayek) الذي يعد دفاعه عن الرأسمالية في هذا الكتاب من أشهر ما كتب دفاعا عنها، ومن ثم اعتبر هذا الكتاب، وأسمه «الطريق إلى العبودية The Road to Serfdom»، وكأنه إنجيل أنصار الرأسمالية والمدافعين عنها.

أما الكتاب الثاني، فهو وكاتبه أقل شهرة: (ك. زلياكوس: مرآة الماضي: K. Zilliacus: The Mirror of the Past)، ويتخذ الموقف المضاد تماما لموقف الأستاذ هايك، إذ ينتقد الرأسمالية بشدة، ويدافع عن النظام الشمولي وعن تدخل الدولة في الاقتصاد ونظام التخطيط المركزي.

قال أورويل بعد أن عرض حجج الكتابين، إن كلا منهما أصاب الحقيقة في جانب وأخطأ في جانب آخر. فالكتاب الأول يضع يده بحق على نقطة ضعف أساسية في النظام الاشتراكي الشمولي، إذ أن هذا النظام لا بد أن يقترن بحرمان الجميع من درجة كبيرة من الحرية، والكتاب الثاني يضع يده على نقطة ضعف أساسية في الرأسمالية، وهي حرمان شريحة كبيرة من الناس من إشباع بعض حاجاتهم المادية الأساسية.

يقول أورويل إن معظم الناس مستعدون لأن يتحملوا مساوئ الاشتراكية في سبيل تحقيق حاجاتهم المادية الأساسية، ولكن هذا لا ينفي خطورة نقص الحريات التي تقترن بالنظام الشمولي.

ينهي أورويل مقاله بقوله إن قراءة الكتابين لا بد أن تبعث على التشاؤم، إذ أنهما يدلان على أن من الصعب أن تحقق المزايا المهمة لأحد النظامين، دون التضحية بالمزايا المهمة التي يحققها النظام الآخر.

ثم يصل إلى النتيجة الآتية: وهي أنه يبدو أن من المستحيل الجمع بين الحريات السياسية والفردية، وبين إشباع الحاجات المادية الأساسية، إلا إذا قام مجتمع تخضع فيه السياسة للأخلاق، وهو ما يبدو، من نبرة أورويل في الكلام، من قبيل المستحيل.

وأظن أن هذا كان هو نفس شعور جون ستيوارت ميل، عندما قال قبل أورويل بمائة عام، إننا لن نحصل على مزايا هذا وذاك، إلا إذا تغيرت الطبيعة الإنسانية. ويبدو أن تعليق الآمال على «تغير الطبيعة الإنسانية»، لا بد بالفعل أن يؤدي بالمرء إلى درجة عالية من التشاؤم.

كاتب ومفكر مصري

sgsaafan@aucegypt.edu

Email