يحتاج المرء إلى التريث قبل أن يسمح لنفسه بالحكم على أي شخص، مهما كان إحساسه قوياً وحدسه صادقاً، أو هكذا يظنهما؛ فقد تصدمنا أحاسيسنا أحياناً، ويخيب حدسنا ظنوننا في أحايين أخر، لذلك ما علينا سوى ترك مثل هذه الأحكام لتنضج على نار هادئة.. نار الظروف الطارئة والمواقف المفاجئة التي ستكشف الأقنعة، وستزيل مساحيق التجميل عن الوجوه المطلية بمختلف ألوان الطلاء المناسب في كل مرة للموقف والمقام.
وعلى الرغم من أننا ندرك على المستوى النظري، أن أي تجمع بشري لا بد أن يتضمن مزيجاً من النفسيات المتفاوتة في طبيعتها الإنسانية المائلة للخير والمُعْرضة عن غيره فطرياً، إلا أننا لا نترجم هذا الإدراك بسلوكنا، فتخدعنا كثيراً المشاعر المصطنعة، وتأسرنا الوجوه الملونة بألوان مبهرجة، لكن دون روح حقيقية تختبئ خلفها.
لا يعني هذا أن نشك في مشاعر كل من يحيط بنا، ونفسر أبسط اهتمام من الآخرين على أنه تقرب بدافع المصلحة، ونرى كل الابتسامات صفراء باهتة لا تتجاوز انفراجة الشفتين، فهذا أمر سيحيل حياتنا جحيما لا يُطاق.
ويصبح اعتزال الناس والعيش في الكهوف أو في رؤوس الجبال أو في جزر نائية في وسط البحر، أفضل من العيش بين الناس مع النفور منهم وعدم تقبل أي كلمة أو تصرف يصدر عنهم. في رأيي، لا يحتاج الأمر إلى أكثر من بعض الحذر والحكمة لضبط العلاقات مع الآخرين.. لكن من هم هؤلاء الآخرون؟
هذا ما لا أستطيع تحديده، فكل شخص له تعريفه الخاص لكلمة «الآخرين». والذي أقصده حين أتكلم على «الآخرين» ربما لا يتفق مع ما يقصده شخص آخر حين ينطق بهذه الكلمة، المرجعية في ذهن كل واحد منا مختلفة، لكن لكل واحد منا «آخرونه» حتماً.
التحكم في نفسيات الآخرين وفي طرائق تفكيرهم أمر صعب بالفعل، ولو فكرنا بشكل عميق سنجد أن تحكم الشخص في حالته النفسية والمزاجية، أو في طريقة تفكيره تجاه بعض الأمور، هو أمر صعب أيضاً بكل المقاييس، وقلة هم الذين يستطيعون أن يقوموا بذلك، فلماذا نريد أن نقوم بذلك مع غيرنا؟
أقصد: لماذا نحاول دائماً أن نغير شيئاً في سلوك الآخرين وفي طريقة تعاملهم معنا كي يكونوا كما نشاء، ونحن لا نستطيع أن نفعل الشيء نفسه بأنفسنا وأن نغير شيئاً مما يجب أن يُغير في شخصياتنا؟
ربما من اليسير أن نردد عبارة «اعرف مَن حولك» ومن الصعب تطبيقها، إلا أن عبارة «اعرف نفسك» هي الأصعب على مستوى الإدراك والتطبيق. وحين أفكر في السبب أجد أنها أسباب كثيرة، لكن دائما يقفز إلى ذهني سؤال يحول بيني وبين الاستمرار في البحث عن أسباب أخرى حول صعوبة معرفة الشخص لنفسه، وهو: كيف يمكنني أن أعرف نفسي إن كنت لا أمنحها الوقت الكافي للتعرف عليها؟
إننا نلهث طوال اليوم بحثاً عن شيء ما، قد نعرفه وقد لا نعرفه، وقد يكون أمراً ثابتاً أشبه بالهاجس الملح مدى الحياة، وقد تكون أشياء متغيرة تتبدل بتبدل الأوقات والظروف. لكننا في كل الأحوال نلهث ونلهث خلف هدف ربما لا نراه، أو نراه بعيداً جدا ونسابق الزمن كي نصل إليه، وفي خضم هذا اللهاث كيف لنا أن نجد الوقت لنسبر أغوار أنفسنا ونعرفها على حقيقتها التي يجب أن نعرفها؟
وفي الوقت الذي نأمل فيه أن نصل إلى معرفة أنفسنا، وهو الأمر الأصعب، على كل واحد منا أن يحرص على معرفة مَنْ حوله معرفة جيدة، وهو الأمر الأقل صعوبة، لأن الكثيرين منا ينظرون إلى الآخرين بعين واحدة، تظهر إيجابياتهم وتخفي سلبياتهم.
رؤية الآخرين بعين واحدة حالة غير طبيعية، إذ لا بد لنا من استخدام العين الأخرى كي نستطيع أن نرى الجوانب المخفية في شخصيات الآخرين، حتى نبني أسس تعاملنا معهم ونحن على علم بالجانبين معاً.
رؤية الجانبين ستمثل درعاً يحيط بنا ويحمينا من السهام التي قد تنطلق في أي لحظة، من أي شخص قريب أو بعيد، ربما لا نتوقع أن يأتي ذلك السهم ـ الذي قد يكون كلمة أو تصرفاً أو نظرة حتى ـ منه.
وهذا الدرع يحتاجه كل واحد منا في كل وقت، لأن ما تخبئه الحياة من مفاجآت أكثر بكثير من قدرتنا على احتمالها، خصوصاً إن جاءت ممن خانتنا معهم قوة إحساسنا، وخيب حدسنا ظننا فيهم.
جامعة الإمارات