قبل مدة بسيطة أقيم مؤتمر في باريس عن تعليم اللغة والثقافة العربية في الدول الأوروبية. ويمثل هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات والأنشطة والفعاليات جسورًا ثقافية تمتد بيننا وبين الآخر في عقر داره، للتعريف بنا، وبلغتنا، وثقافتنا، وبما نحمله من إرث الماضي، وما نعيشه في اللحظة الحاضرة، وما نطمح إليه في المستقبل القريب والبعيد.

ذُكر لي أن المتحدثين في هذا المؤتمر تحدثوا باللغة العربية الفصحى، على الرغم من اختلاف لغاتهم وأصولهم والبيئات التي قدموا منها؛ فتحدث باللغة العربية الفرنسي، والألماني، والبريطاني، والإيطالي، وغيرهم، كما تحدث بها أبناؤها من المشاركين فيه.

وهذا تعزيز لقيمة اللغة العربية الفصحى التي عانت ؟وربما لا تزال تعاني- من إهمال وإعراض شديدين خلال السنوات الماضية، وبدأت مؤخرًا في استعادة مكانتها اللائقة بعد أن تعالت عدة أصوات تطالب بأن تنال اللغة العربية حظوتها بين أهلها، والأهم من ذلك أن يشعر أهلها بضرورة اعتزازهم بها لأنها هويتهم ودليل وجودهم، وبهذا يحصلون على احترام الآخر لهم.

إن الالتفات إلى اللغة العربية وتأكيد ضرورة تعلمها في الدول الغربية أصبح أمرًا لافتًا خلال السنوات الأخيرة، إذ ظهر هذا الاهتمام بوصفه هاجسًا ملحًا لدى أهم المؤسسات الثقافية والتعليمية في الغرب، خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لرغبة هؤلاء في التعرف إلى الثقافة العربية عن قرب، وفهم النصوص التي تدفع بآلاف مؤلفة من الشباب العرب والمسلمين للإلقاء بأنفسهم في شرك الموت. وأيًا يكن السياق الذي يأتي فيه الاهتمام باللغة العربية شرقًا وغربًا، فإن الأمر المهم في هذا كله هو أن اللغة العربية أصبحت تتبوأ المكان المناسب لها بعد طول إهمال.

من الجدير بالذكر أن اللغة والثقافة العربية تُدرس ضمن مناهج التعليم العام في بعض الدول الأوروبية، وهي تُدرس في فرنسا منذ السنوات الابتدائية الأولى حتى الجامعة، وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تعطي اللغة والثقافة العربية كل هذه المساحة الزمانية لتعليمها، نظرًا لوجود أكبر عدد من الجاليات العربية فيها، مقارنة بغيرها من الدول الأوروبية الأخرى، إذ تذكر بعض الإحصائيات أن عددهم يتراوح ما بين أربعة إلى ستة ملايين شخص.

بالإضافة إلى ذلك، تُدرَّس اللغة العربية في جامعات كثيرة، منها عدد من أهم الجامعات العالمية العريقة، لكنها مصنفة عندهم في قسم اللغات القديمة!! هذه هي نظرتهم للغتنا التي لم نتمكن من خدمتها خدمة جيدة حتى الآن، إنها فقط لغة التراث والتاريخ من وجهة نظرهم، أما الحاضر فله لغاته التي أصبح معترفًا بها حتى من قِبَل المتحدثين أساسًا باللغة العربية بوصفها لغتهم الأم.

إن مجرد تدريس اللغة العربية في الجامعات الأوروبية العريقة يعد إقرارًا مهمًا بمكانة اللغة العربية، وبضرورة تعلمها، لكننا يجب أن نفعل شيئًا تجاه موضوع تصنيفها ضمن اللغات القديمة، كي يتحرر أولئك من النظر إليها بوصفها لغة أثرية أو تاريخية. وحتى إن بلغ هذا التصور عندهم حد القناعة الراسخة، لا بد لنا من التفكير العميق للوصول إلى وسيلة تعيد اللغة العربية إلى مسارها الصحيح في نظرهم.

إن مظاهر احتفاء الآخر بلغتنا كثيرة ومتعددة، وأصبحت متزايدة مؤخرًا نظرًا للأسباب التي ذُكرت بين سطور هذه المقالة، ولغيرها من الأسباب أيضًا، وهو أمر لا يجب أن نبقى سلبيين حياله، بل يجب أن تكون لنا خطواتنا العملية المساهمة في تحريك عجلة هذا الاهتمام على نحو أفضل، وتعديل مساره حين يستدعي الأمر ذلك، وتفعيله لخدمة اللغة العربية والفكر السامي الذي تحمله بين جنباتها، لا أن نفرط فيما أصبح في متناول أيدينا، نتيجة جهل أو إهمال؛

فمن غير الممكن أن يحتفي الآخر بلغتنا، في حين نقف نحن موقف المتفرج، بسلبية مستفزة، تعبر عن قناعة ضمنية ؟وربما علنية في بعض الأحيان- بأن اللغة العربية لا تصلح إلا لحمل تراث الأجداد، أما الحاضر والمستقبل فلا نصيب لها فيهما على الإطلاق.

توجد تجارب كثيرة تصب في خدمة اللغة والثقافة العربية، أرى أنها يجب أن تُدوّن بماء الذهب، ومنها على سبيل المثال الأنشطة المتنوعة التي يقيمها معهد العالم العربي في باريس، للتعريف باللغة العربية، ونشر الثقافة والفكر العربيين بين الشعوب الأوروبية التي استفادت كثيرًا من أنشطة هذا المعهد في التعرف إلى العالم العربي عن كثب.

كما استفادت الشعوب العربية من أنشطته التي عرَّفت الشعوب الأوروبية بهم، وبلغتهم، وبثقافتهم، وبفكرهم في حدوده المعتدلة، كما أفاد منها المهاجرون من مختلف الجاليات العربية التي وجدت نفسها محاطة بما يغذيها فكريًا وثقافيًا في مهجرها، نتيجة الأنشطة التي تقدم عبر هذا المعهد أو غيره.

هذا مثال واحد، ويمكن أن تكون للبعض ملاحظات أو مآخذ أو تحفظات على بعض أنشطته، أو غير ذلك مما يمكن أن يحدث تجاه أي مؤسسة أو جهة تقدم أنشطة قد تناسب البعض وقد تتعارض مع توجهات البعض الآخر، لكن المهم هو ماذا فعل المتحفظون لتعديل بعض المسارات التي يرون أنها حادت عن الطريق الصحيح، وما موقفهم تجاه ما يُقدم إن كان ما يُقدم غير متناسب مع توجهاتهم، وما الذي قدموه في مقابل هذا الذي يرفضونه.

ومع ذلك يبقى هذا المثال مجرد قطرة في بحر كبير يمثل جملة إسهامات الجهات والمؤسسات والجمعيات الناشطة للتعريف باللغة والثقافة العربية في الدول الأوروبية، ونحن نأمل أن يتحول هذا البحر إلى محيط، لكن الذي نرجوه أكثر هو أن يكون لنا إسهام في هذا المحيط، وألا نتمسك دومًا بموقف المتفرج، كي يكون لنا دور في توجيهه الوجهة الصحيحة، وفي إفادتهم بما يجب أن تكون عليه مثل هذه المنارات المشعة لتوصيل نور الثقافة العربية نحو مختلف أنحاء العالم.

جامعة الإمارات

sunono@yahoo.com