في الشهر الماضي عقدت في دبي ندوة كجزء من برنامج «الحوار الثقافى العربي الألمانى»، كان من أهم محاور المناقشة فيها قضية الترجمة، سواء من اللغة الألمانية (واللغات الأجنبية عموما) إلى العربية، أو العكس. وكان من حسن حظي الاشتراك في هذه المناقشة.
وقد تناولت في مقالين سابقين بهذه الصحيفة قضية الترجمة إلى العربية، باعتبارها في رأيي هي الأهم، وأنها تستهدف أغراضا قد تثير مسائل مختلفة تماما عما تستهدفه وتثيره قضية الترجمة من العربية. وحاولت أن أبين في المقالين السابقين فوائد الترجمة إلى العربية بل وضرورتها. ونأتي الآن إلى ما يجب عمله في هذا الصدد.
من أول ما يتبادر إلى الذهن الحاجة إلى وضع خطة، تتناول كافة جوانب قضية الترجمة، ويمتد أفقها الزمني إلى فترة طويلة في المستقبل، ويعكف على وضعها مثقفون ومختصون معروفون، ليس فقط بعلمهم الواسع باللغة ومشاكل الترجمة، ولكن أيضا باتساع أفقهم واهتمامهم بقضية النهضة العربية بوجه عام، ودور الترجمة فيها، وبرغبتهم الصادقة في تحقيق تقدم عربي في مختلف الميادين.
هذه الخطة المنشودة يجب أن نحذر كل الحذر من الاستعجال في وضعها. فالهدف نبيل، ويستحق التأني والصبر، وقضية الترجمة معقدة، وتثير مشاكل متنوعة، والآراء في قضية الترجمة مختلفة ويحتاج الوصول إلى اتفاق بشأنها إلى تبادل للرأي لابد أن يستغرق وقتا طويلا. ونحن على أي حال قد أهملنا قضية الترجمة وقتا طويلا، فلا موجب للاستعجال فجأة في تحديد أفضل السبل لمواجهتها.
دعنا إذن ندعو مجموعة من المثقفين العرب، ليس من المفيد أن يزيد عددهم عن عشرة أو عشرين على الأكثر، فمثل هذه الأمور لا تفيدها بل قد يضرها كثرة المتنافسين، وقد يصعب جدا الوصول إلى اتفاق إذا زاد عدد المشتركين في النقاش عن حد معين.
ولنطلب منهم وضع خطة للترجمة، تغطي فترة العشرين عاما المقبلة على الأقل، وتبدأ بتحديد الأهداف التي نأمل في تحقيقها من وراء الترجمة، وأوجه القصور الحالية في حالة الترجمة في العالم العربي، وطرق علاجها وتلافيها، وتحديد الأولويات من حيث فروع المعرفة المختلفة التي قد نترجم أعمالها، واللغات المختلفة التي نترجم منها، ووسائل النهوض بمستوى الترجمة والمترجمين، ثم مشكلات النشر والتمويل، وتوزيع أعباء هذا التمويل على الأطراف المعنية بقضية الترجمة.. الخ.
الموضوع كما ترون واسع جداً ومتشعب، وسوف أقتصر في هذا المقال على بعض الأفكار التي أرى من المفيد الاتفاق عليها (أو على الأقل مناقشتها) قبل البدء في وضع هذه الخطة.
يجب الاعتراف أولا بأننا لا نبدأ من فراغ. فالترجمة إلى العربية عملية قديمة ومستمرة، ومن المفيد أن نقرر في أي وجه من الوجوه تختلف آمالنا في الترجمة في المستقبل عما تم في الماضي.نحن لدينا تلك التجربة التاريخية الرائعة التي جرت في العصر العباسي، ابتداء من عصر الخليفة المأمون واستمرت بعده، عندما نشط العرب في ترجمة الأعمال الفكرية اليونانية والفارسية إلى العربية في الفلسفة والمنطق والطب والعلوم الطبيعية، وكان لها أثر لا ينكر في تقدم الفكر الفلسفي والعلمي العربي بعد ذلك.
ثم لدينا حركة الترجمة، الرائعة أيضا، في فترة الصحوة العربية التي بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر واستمرت إلى منتصف القرن العشرين، قبل أن يصيبها الاضطراب في الربع الثالث من هذا القرن حتى دخلت مرحلة الانحطاط الحالية والتي انقضى عليها أكثر من ثلث قرن.
علينا أن ندرك فارقا كبيرا بين أهداف الترجمة إلى العربية، كما كانت منذ نحو ألف سنة، وبين ما يمكن أن تكون عليه الآن. كان العرب في ذلك العصر الذهبي القديم، في قمة حيويتهم النفسية والفكرية، تملأ قلوبهم الثقة بالنفس، ولا يثور في أذهانهم أي شك في أن الله قد فضّلهم على العالمين، فإذا كانوا بحاجة إلى نقل بعض ما أنتجته قرائح الآخرين فليس هذا لأن الآخرين أقرب إلى الحقيقة منهم، وإنما لأنهم وجدوا لدى هؤلاء الآخرين ما قد يزيد حججهم قوة في الدفاع عن دينهم.
وما قد يزيد كفاءتهم في نشر دينهم وتعميق أثره. كان العرب منذ ألف سنة أقل تحضرا، من الناحية المادية، ممن حاورهم من الأمم التي نقلوا عنها، ولكنهم لم يساورهم الشك قط، في ذلك الوقت في أنهم أكثر رقيا في غير ذلك من الأمور، سواء في مبادئهم القانونية، أو طبيعة علاقاتهم الاجتماعية، أو أخلاقهم، ناهيك عن اعتقادهم بتفوق لغتهم، لغة القرآن الكريم، على سائر اللغات، وقدرتها على التعبير عن أي معنى يخطر بالذهن، وعلوّ كعبهم في الأدب والشعر عن سائر الأمم.
في كل هذه الأمور نحن نبدأ الآن من نقطة مختلفة للغاية، عما كان عليه العرب منذ ألف عام. فشعورنا بالدونية لا يقتصر فقط على جوانب الترف المادي، بل ويشمل أيضا موقفنا من علاقتنا الاجتماعية ونظامنا السياسي والقانوني ولغتنا وأدبنا.. الخ. نحن إذن إذا ترجمنا اليوم، لا نفعل ذلك في ظل شعور قوي بالنفس، بل في ظل شعور ثقيل بالنقص، قد يكون له أثر سلبي في نوع الأعمال التي نقوم بترجمتها.
والعرب منذ ألف سنة كانوا يترجمون من رصيد ثابت من الكتب التي أنتجها القدماء ثم توقفوا عن إنتاج مثلها، بينما نحن اليوم نواجه تيارا متدفقا من الأعمال الجديرة بالترجمة، وأنتجت قديما وحديثا. فنحن اليوم في مواجهة حضارة حية منتجة، بينما كان أسلافنا منذ ألف عام يواجهون حضارة شهدت أفضل أيامها ثم عفى عليها الزمن.
وكأن العرب منذ ألف سنة كانوا يستخرجون اللآلئ من بحيرة ساكنة غير متجددة، ونحن اليوم نحاول التقاط ما يمكن أن يرمي به شلال من المياه لا ينقطع تدفقه. المهمة الآن أصعب بكثير إذ لابد أن تختلط الأحجار النفيسة، فيما يمكن لنا التقاطه، بأحجار خالية من أي قيمة، وأن تختلط اللآلئ بالصدف الفارغ. ولكن التمييز بين هذا وذاك ليس هو الشيء الوحيد الصعب فيما نحن مقبلون عليه من ترجمات إلى اللغة العربية. فما هي الصعوبات الأخرى ؟
كاتب مصري