لا يستطيع أحد أن يجادل في وجود أزمة قراءة في الوطن العربي، وهي أزمة كتابة أيضاً؛ فنحن أقل الناس كتابة وقراءة معاً؛ فما ينتجه العرب من كتب حتى الآن، على اختلاف طبيعة هذه الكتب وجديتها، لا يزال ضئيلاً جداً بالقياس إلى ما تنتجه الدول المتحضرة والمتقدمة، إذ إن ثمة صلة قوية بين صناعة الكتاب ودرجة التحضر.

ويبدو الأمر أكثر تعقيداً حين يصل إلى قضية القراءة التي تبدو أزمة حقيقية، فالمواطن العربي ضعيف الصلة بالقراءة على الرغم من وجود كم من الكتب بين يديه، وعلى الرغم من تزايد عدد المؤسسات والفعاليات التي تحتفي بالكتاب، والتي توجه عناية كبيرة نحو تهيئة المناخات المشجعة على جعل القراءة عادة طيبة يقبل عليها الناس إقبال المحبّ الذي تتوق نفسه نحو اكتشاف المعرفة والمضي في دروبها الكثيرة المتشعبة.

وإذا حصرنا نظرنا في عالم الأطفال فإن هناك الكثير مما يقال في مسألة قلة الاهتمام بتنشئة الصغار في العالم العربي على عادة القراءة، وتربيتهم على تقدير الكتاب، وتوجيههم نحو ممارسة فعل القراءة خارج حدود المدرسة والتعليم المنهجي والمشاركة في المسابقات المحلية والإقليمية.

فليس هناك خطة تربوية واجتماعية تأخذ بيد الطفل منذ سنيه الأولى للقراءة التي تبدو أساسية وضرورية في هذا العمر المبكر، فإذا تخطى الطفل سنوات القراءة الحرجة دون خطة مدروسة يصبح علاج العزوف عن القراءة متأخراً وصعبا.

وإذا كنا نفتقد خطة واضحة لقراءة الطفل، لأن هذا الهدف، في الأغلب، في آخر قائمة الأهداف التي يسعى إليها القائمون على تنفيذ الخطط الثقافية، فإن المشكلة تكمن في طبيعة المادة المقدمة ومستواها، ومدى مناسبتها لمستوى الطفل العقلي والنفسي ومدى ملاءمتها لحاجاته الروحية والفنية.

إننا في حاجة للأخذ بيد الطفل ليكون صديقاً للكتاب، وهو الهدف الأساسي حتى يتمكن الطفل من جعل القراءة عادة دائمة، تجعل الكتاب صديقا لا يغيب، ينهل منه المعرفة والقيم، وتتكون لغته وأسلوبه من التعايش مع اللغة في أرفع تجلياتها.

ولكن هذه الأهداف المهمة يجب ألا تغيب تحت شعارات فارغة: هي تقديم الأدب والمعرفة للطفل دون اعتبار لأية شروط تتصل بطبيعة الطفل، وحقيقة المادة المقدمة له وفق الشروط التربوية واللغوية والقيمية والفنية؛ فأي ثقافة موجهة للطفل لا تلبي هذه الشروط تصبح سيفاً ذا حدين بل تصبح خطراً على الثقافة التي نطمح إلى أن تتحقق في أطفالنا.

قد يكون ضعف اكتساب الأطفال العادة القرائية منذ الصغر سبباً أساسياً في عزوف الكبار عن القراءة، وفي كساد سوق الكتاب الذي ينصرف الناس عنه إلى أي مجال. ولكن قد يقول قائل: إن اقتناء الكتاب ليس مقياساً دالاً على العزوف عن القراءة؛ فالمكتبات العامة قد تكون بديلاً معقولاً أمام الناس الذين لا يستطيع دخلهم المتدني أن يغطي الحاجات الأساسية.

وعلى الرغم من أن بعض القراء، وهم قلة، يجدون في المكتبات العامة شيئاً من بغيتهم فإن عدد هؤلاء لا يشكل مؤشراً ذا دلالة على إقبال الناس على القراءة، وإن المؤشر الحقيقي لفاعلية القراءة هي أن يكون الكتاب جزءا من ميزانية الأسرة، وهماً من همومها الأساسية يقف إلى جانب الطعام والشراب والدواء والكساء. إن الكتاب هو مقياس الحضارة والتقدم بل هو مقياس الإنسانية.

ولا يعقل في زمن تسارع المعرفة وتفجرها أن نظل في ذيل القافلة، ولا يعقل أن نستبدل بالثقافة والمعرفة التكالب على مظاهر الحياة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فمظاهر الحياة تلك خادعة براقة لا تؤسس لتقدم حقيقي ولا تشكل وعياً أصيلاً، بل وعياً زائفاً فيه من الضرر والخطر ما لا يتنبه عليه أولئك الذين لا يقدرون قيمة العلم والثقافة باعتبارهما الحصن الحصين لأي مجتمع.

إن المدارس والجامعات والمراكز الثقافية والعلمية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي مدعوة إلى جانب الحكومات لوضع خطط قصيرة الأجل وخطط استراتيجية لتعميم عادة اقتناء الكتاب منذ وعي الطفل المبكر، ولا بدّ من تأسيس قواعد علمية صحيحة من أجل صناعة كتاب الطفل خاصة، وصناعة الكتاب عامة، فليست الكتابة هواية فقط وليست القراءة ترفاً، وإنما هما أساس الحياة والحضارة ومن دونهما يظل كل شيء في مهب الريح.

ولعل الأمل ينعقد على أجيال الغد من الصغار الذين نراهم في معارض الكتاب يقفون وقفة المستكشف أمام الكتب الملونة، يمعنون النظر في أغلفتها، وأعينهم تفيض بعشرات الأسئلة، وفي أعماقهم فضول نرجو ألا ينطفئ يوما.

هؤلاء الذين أصبحت زيارة معرض الكتاب عندهم طقسا من طقوس الأسرة يؤدونه كل عام.. هؤلاء الصغار الذين يسحبون يد الكبير نحو كتاب يناديهم هنا وهناك.. إنّ رؤيتهم تبعث الأمل على الرغم من أنّ الوقائع والأرقام توقظ اليأس في المقابل.. ولعل هذا يضعنا على أول الطريق.. الأسرة وما تقدمه لأبنائها من الرعاية الصادقة والقدوة الصالحة والمثال الحيّ..

فلا يكفي فقط أن نذهب مع أبنائنا إلى معرض الكتاب، ونشتري لهم مجموعة من الكتب والقصص، فعلى الرغم من أهمية هذا الأمر ودوره المؤثر في توجيه الأطفال نحو تقدير الكتاب والارتباط به، لكن الاحتفال بالقراءة يجب ألا يكون آنيا لحظيا في مواسم بعينها، ثم يخفت الحماس ويتلاشى الاهتمام وسط ضوضاء الحياة ومتطلباتها الكثيرة.، كما أنّ توجيه الصغير نحو القراءة يحتاج إلى أن يتحرر من إطار المدرسة والواجبات والتقارير التي يكلف بها.

فنحن في حاجة إلى أن نجعل القراءة غاية في حدّ ذاتها يرى فيها أبناؤنا من الأطفال والشباب ملاذا وأنسا وجمالا ومتعة، فيشعرون بأنها تحررهم، وتطلق أرواحهم في آفاق بلا حدود، فلا تكون عبئا، ولا تكون همّا، ولا تكون فعلا يمارس لإرضاء الآخرين أو التباهي أمامهم.

ولكي نصل بأبنائنا إلى هذا المستوى من الارتباط بالكتاب نحتاج إلى تغيير الكثير في ثقافتنا التربوية، وفي ممارساتنا اليومية، وفي حياتنا بشكل عام. وهذا التغيير الجوهري يحتاج بدوره إلى دعم كبير من مؤسسات المجتمع المختلفة، ويحتاج إلى أن يجد الكتاب مساحة في وقتنا الذي نمنحه لوسائل الترفيه المختلفة من تلفزيون وألعاب وممارسات نتبعها لتزجية وقت الفراغ.

جامعة الإمارات