في آخر أيام أكتوبر الماضي ألقى الجنرال جون أبي زيد محاضرة سرعان ما احتلت محور اهتمام وكالات الأنباء ما بين موقع المحاضرة في جامعة كارنيجي ميلون بأميركا إلى دوائر السياسة والإعلام والشأن العسكري أيضاً في الشرق الأوسط..
كيف لا وقد بادر الجنرال الأميركي سابقا والمستشار الجامعي حاليا سامعيه بقوله: إن القوات الأميركية قد تبقى مرابطة في منطقة الشرق الأوسط لمدة تطول إلى خمسين عاما من عمر الزمان.
ومن المبررات التي ساقها السيد أبي زيد عوامل تطرق فيها إلى ما وصفه بأنه «نوازع التطرف بين سكان المنطقة من السنّة والشيعة.. والصراع العربي ـ الإسرائيلي واستمرار اعتماد العالم على بترول الشرق الأوسط».
وقبل أن تبدأ بورصة التحليلات السياسية لهذه التصريحات غير المسبوقة بادر الجنرال إلى التذكير ـ ربما من باب التحوط أو الاحتراز ـ بتصريحات سبق وأدلى بها في شهر سبتمبر الماضي ودعا فيها أميركا إلى بذل جهودها لكي تتحول الصراعات العسكرية إلى قضايا سياسية والى تطوير الأداء الأميركي في مجال استخدام السبل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية بدلا من اللجوء إلى الأساليب العسكرية فضلا عن الاقتصار عليها.
في كل حال جاءت تصريحات الجنرال أبي زيد الأخيرة لتعيد إلى الأذهان موقع أميركا على خارطة العالم بشكل عام ودورها الراهن على ساحة الشرق الأوسط وعلى مسرح العراق بشكل خاص.
وفي هذا الإطار يمكن أن نتفهم بنود الرسالة المهمة التي تلقاها الرئيس الأميركي بوش يوم 10 أكتوبر وكان موضوعها الأساسي هو مؤتمر الشرق الأوسط المرتقب عقده في الفترة الحالية وقد حمل اسما له نكهة إعلامية خاصة وهي «مؤتمر الخريف» قبل أن تتردد صفة مؤتمر «أنابوليس».
8 شخصيات أميركية بارزة ذيلت بتوقيعها الرسالة التي اختارت أن تنشر نصها مجلة نيويورك ريفيو المعنية بمراجعة أهم الكتب الصادرة في أميركا (عدد 8 /11) واختارت أن تستهلها بالعنوان التالي: «الفشل ينذر بعواقب وخيمة».
وربما اكتسبت الرسالة أهميتها من أن أول موقعيها رجل مشتغل بالفكر والبحث الأكاديمي بمعنى أنه ليس طرفا في صراعات حزبية (وهي محتدمة حاليا على وهج بوادر معركة السباق الرئاسي المقدر اندلاعها مع مطالع العام القادم)..
ونعني به البروفيسور زبغنيو بريجنسكي.. ويمكن أن نقول إن توقيعه على الرسالة دفعنا إلى أن نراجع مقولة سبق إليها في كتابه الذي أصدره عام 1997 بعنوان «رقعة الشطرنج الكبرى» محذرا في تلك الفترة الباكرة من استسلام واشنطن إلى نشوة الدولة ـ الإمبراطورية أو القطب الوحيد الأعظم في عالم ما بعد الحرب الباردة وهو انسياق وقعت أميركا في حبائله.
وخاصة بعد استيلاء المحافظين الجدد وهم صقور الحزب الجمهوري على مقاليد الأمور في واشنطن طيلة السنوات السبع الماضية فضلا عما أعلنوه عن «محاربة الإرهاب» في كل أركان العالم مع التركيز كما أصبح بديهيا وملموسا على ساحتي أفغانستان والعراق.
ولعل أهم ما نستخلصه من كلمات بريجنسكي هو أن أميركا لا تستطيع بمفردها أن تغير الأمور وأن على واشنطن أن تلتمس مساحة من الأرضية المشتركة أو فلنقل من التوافق بين الآراء والتوجهات من جانب أطراف شتى وخاصة في غمار ما هي بسبيله من عقد مؤتمر يطمح، على ما يبدو، إلى مقاربة موضوعية أو فاعلة أو مجدية لقضية الشرق الأوسط الجوهرية مجسدة في الصراع العربي (الفلسطيني) ـ الإسرائيلي (الصهيوني).
نلاحظ أيضاً أن ثاني الموقعين على الرسالة التي ألمحنا إليها هو النائب لي هاملتون عضو مجلس النواب بالكونغرس وهو أيضاً الرئيس المشارك لفريق دراسة العراق وبهذه الصفة فقد قدم التقرير الشهير الذي حمل اسمه جنبا إلى جنب مع سياسي أميركي مقتدر آخر هو جيمس بيكر وزير خارجية الرئيس بوش ـ الأب.
وجاء التقرير المذكور صادرا عن تفكير أكثر واقعية وأعمق تحليلا لدور أميركا في المنطقة بعيدا عن نزعة الاستعلاء وصيحات الحرب ودق طبولها على نحو ما دأب عليه غلاة المحافظين.. في المستهل تؤكد الرسالة على أهمية التفعيل الناجح لمؤتمر أنابوليس حتى لا يفضي الفشل إلى أفدح العواقب .
وعليه ينبغي أن يتوخى المؤتمر التوصل من خلال هذه المحاور إلى النتائج الخمس التالية:
(1) دولتان تقومان على أساس خطوط يونيه 1967 مع تعديلات ثانوية ومتبادلة ومتفق عليها.
(2) مدينة القدس موقعا لعاصمتين بحيث تخضع أحياؤها اليهودية لسيادة إسرائيل فيما تخضع أحياؤها العربية للسيادة الفلسطينية.
(3) ترتيبات خاصة للمدينة المقدسة تكفل لكل جانب سيطرته على الأماكن المقدسة التي تخصه وعلى سبل بلوغها بغير عوائق.
(4) حل مشكلة اللاجئين بما يتسق مع صيغة الدولتين.. والتصدي لمعالجة الشعور العميق بالظلم بين صفوف اللاجئين الفلسطينيين إضافة إلى تزويدهم بتعويضات مالية يُعتد بها ومساعدات ملموسة في عمليات إعادة التوطين.
(5) إنشاء آليات للأمن تلبي شواغل إسرائيل فيما يتعلق بالسيادة الفلسطينية.
في آخر سطورها تسجل الرسالة.. بقدر لا يخفى من الوضوح ـ أن المجتمع الدولي وكذلك طرفي النزاع.. بلغوا مرحلة شهدت فترات مطولة فادحة التكاليف من سلبية اللافعل.. في حل النزاع.. ولكن يؤكد موقعوها أنه في ضوء خطورة الموقف فإن الطموحات التي تحف بمؤتمر أنابوليس لابد وأن تصدر أساسا عن موقف يخط مسارا جديدا على الأرض فيما يتحلى بالشجاعة اللازمة للمضي إلى تحقيق الأهداف.
ويبقى من قبل ومن بعد السؤال مطروحا:
هل يصغي صانعو السياسة الأميركية إلى مثل هذه التصورات المعقولة التي تستهدف مصالح بلادهم القومية بالأساس قبل أن تلتمس تحقيق سلام في الشرق الأوسط؟
أم تسود الأفكار التي لا تنهض على أساس منطقّي مقبول.. ومنها دعوة الجنرال أبي زيد إلى استمرار الوجود العسكري الأميركي (وربما الغربي بشكل عام) على أرض المنطقة.. إلى أن يبلغ القرن منتصفه وربما إلى أجل أطول بكل ما ينجم عن ذلك من عواقب ومشكلات؟
كاتب مصري