قبل 3 أيام انتزع ملك الموت روح رجل أميركي اسمه «بول تيبتس» بعد أن عاش بيننا لمدة 93 عاما طويلة (قضاها في أعمال.. ...........!) ـ ويبدو أن الله قد تركه طوال هذه المدة ليختبر ردة فعل البشرية التي ظلت على قيد الحياة تأكل وتشرب وتنعم بما لذ وطاب وبينها رجل مثل «بول تيبتس».

لأن لا أحد سيجرؤ على أن يرفع يده احتجاجا على وجود كائن بشري مثل هذا الرجل دون أن يقدم للمحاكمة التي يستحقها. ولأن مثل «بول تيبتس» هناك مئات الملايين يعيشون بشكل طبيعي وعادي بيننا. غير أننا تفننا فقط في محاكمة بعض اللصوص الصغار،

وقراصنة الأقراص المدمجة من طلاب المدارس، وبائعي المخدرات الذين دفعهم الجوع إلى مزيد من الإدمان، وغشاشي المواد الغذائية والاستهلاكية الذين تساوى عندهم الحلال والحرام، وترك كبار المجرمين يمشون في الأسواق، ويأكلون على موائدنا، ونستقبلهم كأبطال!

«بول تيبتس» واحد من مجرمي الحرب في التاريخ الذين لم يجرؤ أحد حتى على أن يتلفظ باسمه. لسبب بسيط وهو أنه يشكل واحدا من صانعي تاريخ القوىالعظمى الحرة في العالم. ولكن يحق لكل من يشاء أن يحاسب ويطارد ويقتل أسامه بن لادن.

«بول تيبتس» قتل بلمسة زر واحد أكثر 000. 140 قتيلا في أقل من ثانية، إضافة إلى من قضوا بعد تلك اللمسة المشؤومة، ومع هذا ظل حرا طليقا يعيش في حياة مليئة بالبذخ والاحترام والتبجيل من قبل شعبه. بينما أسامه بن لادن الذي خطط لتدمير برجي التجارة في نيويورك قبل عدة سنوات والذي خلفت عمليته أقل من 3000 قتيل صوره الإعلام الغربي على أنه يمثل رمز الشيطان والدمار!

وأظن أن الفارق الكبير في الأرقام بين ضحايا الأول وضحايا الثاني لا يحتاج إلى آلة حاسبة. وكلاهما كان يدعي أنه يقاتل لأجل هدف سام: حرية شعبه والدفاع عن مبادئه. فقتل كل واحد منهما أكبر عدد ممكن من الأبرياء!

وفي يوم 5 /8/ 1945 قام «بول تيبتس»، بزيارة هادئة إلى طائرته الحربية بي 29 ليربت على جناحيها، ويصر على أن يسميها: Enola Gay تيمنا باسم والدته التي أنجبته وأرضعته وعلمته قيم الحياة. أليست هذه قمة الوقاحة و(البجاحة) على قول المصريين.

في اليوم التالي 6/ 8/ 1945 وتحت جنح ظلام الساعة 2:45 دقيقة هرول «بول تيبتس» إلى إينولا جيه ولبس خوذته وأغلق على نفسه قمرة القيادة وقلبه ينبض بشعور غريب. وحلق «بول تيبتس» بعدها على ارتفاع 000 . 30 قدم تجاه مدينة كانت تنام بهدوء،

مدينة مليئة بالأطفال الرضع وتلامذة المدارس وطلاب المعاهد وعمال المصانع والمرضى وكبار السن النائمين في دار العجزة والقطط المسالمة والأشجار التي تمنح الأوكسجين والمياه التي تروي الظمأ.

وكان «بول تيبتس» يتمتم إحدى أغانيه المفضلة وهو يشاهد المناظر الطبيعية الخلابة من على علو 000. 30 قدم فوق سطح البحر. بينما على بعد بعض الكيلومترات على الأرض كانت هناك أم تحاول أن تجعل طفلها الرضيع ينام بعد أن ألمت به حمى حادة. ولم تسمع تلك الأم أزيز البي 29 القادمة من بلاد اليانكي تحمل لها أطنانا من الموت الأصفر على شكل قنبلة نووية عالية الجودة.

وعند لحظة الصفر وكانت عقارب ساعة «بول تيبتس» تشير إلى 8:15 دقيقة صباحا ضغط على زر يوجد على جانبه الأيمن، وإذا بالـ Little Boy تلك القنبلة التي تعادل في انفجارها ما بين 13 إلى 16 كيلو طنا من مادة التفجير تي أن تي، وبطول 3 أمتار وزنة 4000 كيلو غرام (أي ما يعادل 80 كيس رز أو طحين تزن كل واحدة منها 50 كغم تلقى من على علو 000. 30 قدم على الفقراء)،

تتهاوى بسرعة فائقة نحو نقطة الصفر في مدينة هيروشيما التي حددها مسبقا خبراء الإحداثيات في قاعدة سلاح الجو الأميركي. وكان «بول تيبتس» والأربعة عشر حراميا الجالسين خلفه على نفس الطائرة، ينظرون بإعجاب ودهشة نحو هدف أول قنبلة نووية تتم تجربتها على البشر، كما تجرب العقارات الجديدة على الحيوانات الأليفة.

وفي أقل من دقيقة خرجت من الأرض وردة كالدهان على شكل نبتة فطر ضخمة جميلة الشكل. يقول خبراء القنابل النووية بأن الانفجار الصادر من تلك القنبلة النووية نتج عن الهواء الساخن من أشعة أكس (كرة النار) وأرسلت موجات صدمة/ ضغط في جميع الاتجاهات بسرعة الصوت! وفي أقل من ثانية تحول كل شيء: المواد الصلبة والبشر إلى لا شيء!

وبعد أن تأكد «بول تيبتس» بأن كل شيء أصبح لا شيء، وأنه أنجز مهمته بنجاح وارتاح باله، طفق عائدا نحو قاعدته من حيث انطلق هو والأربعة عشر حراميا معه. ويقال انه كان يترنح طربا وفرحا بتلك النتيجة المأساوية على الشعب الذي كان يعتقد بأنه يعيش على أرض (Nippon): أو أرض الشمس المشرقة. فتحولت هيروشيما إلى مدينة مطفأة،

يسمع فيها أنين المحتضرين على بعد عدة أميال، بينما التصقت جلود الآخرين بإسفلت الشوارع والحيطان التي لجؤوا إليها وتناثرت هياكل عشرات الآلاف منهم ممن كانوا على مقربة من موقع سقوط قنبلة (الولد الصغير) إلى عدة أميال، أو انصهرت كما ينصهر الرصاص، ومن نجا منهم تشوهت أطرافه. وإلى يومنا هذا وبعد مرور أكثر من 60 عاما، ما زال هناك من يولد في هيروشيما وهو يحمل خطيئة «بول تيبتس».

لكن «بول تيبتس» طال به العمر، وأصبح شاهدا على العصر وعلى أول قنبلة تقتل هذا العدد الكبير من البشر. وبعد أن عاش في ظلام دامس وتجاهل تام، ولم يجد من يبجله أو ينحت له تمثالا كتمثال هوجو وفولتير وأنه قد يموت كما يموت الحمار، بدأ يدلو بتصريحات تشمئز منها النفوس.

وليته صمت صمت الموتى، لكنا قد اقتنعنا بأنه كان عبد المأمور تماما كما كان يفعل مساعدو صدام حسين، الذين لم يكن أمامهم إلا أن يقتلوا وهم أحياء أو يقتلوا أحياء آخرين. لكنه أصر حتى يوم مماته على الاعتراف بأنه غير نادم أبداً بسبب المهمة التي نفذها وأنه ينام الليل من دون أرق.

كيف يا ترى ينام من قتل بيده 000. 140 آدمي بغض النظر عن لغتهم وديانتهم وانتمائهم؟ وحتى لو افترضنا أنه نفذ مهمة عسكرية أوكلت إليه، فإن كثيرين ممن ارتكبوا جرائم بسيطة ضد الإنسانية شعروا بالخزي والعار والندم بعد ذلك، ومنهم من انتحر أو حاول الانتحار أو دس رأسه في الرمال تعبيرا عن سوء فعلته وعن وخز ضميره.

وذكرت وكالات الأنباء أنه طلب في وصيته قبل مماته أن لا يوضع له شاهد على قبره كي لا ينتقم منه مناهضوه وأن لا يصبح قبره مزارا، وطلب في وصيته قبل موته أن تحرق جثته وينثر رمادها في القنال الإنجليزي! كم هو رائع هذا الرجل! كم هو متواضع أمام مئات الآلاف من الضحايا الذين تسبب في حرقهم أحياء حتى الموت ولم يتبق حتى الرماد من جثثهم.

«أنام هانئاً كل ليلة». هذه هي جملته الشهيرة التي تدل على وقاحة ما بعدها وقاحة. بأي ضمير ميت ينام هذا الرجل الذي نام قبل أربعة أيام نومته الأخيرة؟ حتى الرئيس العراقي السابق صدام حسين لم يقتل هذا العدد من البشر بطلقة بندقية واحدة،

ولكنه لاقى من العقاب الدنيوي ما لا طاقة لبشر على تحمله. الفرق أيضاً هو أن صدام حسين كان شرقيا وجرائمه تندرج تحت قائمة جرائم العالم الثالث، أما «بول تيبتس» فإن جريمته مغفورة كونه غربيا وجريمته تندرج تحت قائمة جرائم العالم المتحضر.

لقد مات «بول تيبتس» بعد 92 عاما من تاريخ ولادته وبعد أن تدهورت صحته إلى حد كبير وأصبح قلبه غير قادر على النبض بشكل سليم. وهللت أشباح اليابانيين الذين تسبب في موتهم والتي ظلت تحوم هياكلهم حول جسده كل ليلة عندما يحل الظلام، فتصرخ في وجهه، وتبحلق جماجمهم الفارغة من العيون في عينيه، وتتلمس عظام أطرافهم كفه، وتشده من ركبتيه، وتستعجل خروج روحه حتى يتناوبوا عليه بعد ذلك ضربا وتبريحا وبصقا على فعلته.

خيال علمي؟ كلا. ربما الحقيقة التي لم يتخيلها «بول تيبتس». لأن «بول تيبتس» لم يتخيل قط أنه سيفارق هو أيضاً هذه الدنيا بشكل من أشكال الموت الذي تتعدد أسبابه. كان «بول تيبتس» يعتقد في صميمه أنه الوحيد على الكوكب الأزرق الذي لن يموت بعد موت 000. 140 ياباني بريء. واليوم «بول تيبتس» غير موجود بيننننا ولا الـ 000. 140 ياباني الذين تسبب في قتلهم، وربما لم ولن يبك على فراقه أحد.

هناك الآن غيره ممن يترقبه ملك الموت عزرائيل وينتظر إصدار الأمر الإلهي بانتزاع روحه، من هم على شاكلة «بول تيبتس» ممن لا يزالون على قيد الحياة معنا على نفس الكرة الأرضية هذه. وحتى ولو انعدم لديهم الضمير الإنساني، فإنهم سيظلون لا يرقون حتى إلى أبشع الحيوانات في طريقة القتل والفتك وحب الدماء الدافئة.

ليتنا نقرر في مدارسنا وكلياتنا وجامعاتنا مادة إجبارية ندرسها لأطفالنا وطلابنا تحت عنوان: («بول تيبتس»). ويكفينا منه اسمه الأول!

جامعة الإمارات

dralaboodi@gmail.com