بمعزل عن كل المواقف والخلفيات السياسية والإيديولوجية المتحكمة بتعقيدات الساحة الفلسطينية في الداخل حالياً، إلا ان مشهد الهراوات الذي كان يتساقط على رؤوس المصلين في ساحات وشوارع غزة يوم الجمعة الماضي بقدر ما كان يثير الحزن والاشمئزاز في آن معاً.

إلا انه كان أخف وطأة من اللجوء إلى لغة الرصاص المعتمدة أصلاً في بعض الأجندات الداخلية، التي كانت بالتأكيد ستكون نتائجه كارثية ومأساوية، ولهذا فإن أساليب القمع التي لجأ إليها عناصر القوة التنفيذية لتفريق المتظاهرين (أي المصلين) في غزة يذكرنا بعناصر منع التظاهر والشغب في شوارع كاتماندو ضد المعارضة العريقة في تلك البلاد.

وهذا بالطبع يعطي انطباعاً بسلمية التحرك، وشعوراً من ناحية أخرى بشرعية مطالب المعترضين الذين لجأوا إلى الصلاة في شوارع والساحات العامة كأسلوب احتجاج مبتكر وراق، باعتبار ان الصلاة والتجييش الديني هما أسهل طرق لاستعادة السلطة واستعادة الشرعية المفقودة، بعد شراء الذمم بالأموال وإغراءات المناصب وتوزيع الحصص.

إذا كان البعض يأخذ على الحكومة المقالة في غزة لجوءها إلى قمع المصلين في الميادين العامة تلبية لدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الا ان الملفت هو عدم رد حماس بالمثل ودعوة مؤيديها وأنصارها وهم بالمناسبة كثر إلى الصلاة في الميادين والساحات العامة في مدن الضفة حيث مقر حكومة سلام فياض في رام الله والبيرة وجنين ونابلس والخليل وكل قرى ودساكر الضفة.

وليحكم الرأي العام والناس كل ذلك بدلاً من هذه الاستعراضات الباهتة التي لجأ إليها الطرفان: فتح بعناصرها المؤمنة والتقية والورعة التي يتشوق أفئدة عناصرها وأنصارها بالصلاة والتمسك بأهداب الدين الحنيف من جهة وعناصر القوة التنفيذية التي لجأت إلى البطش بالهراوات والعصي وأعقاب البنادق ضد المتظاهرين في عملية تنكيل عنيفة امام عدسات الفضائيات من جهة أخرى، والمؤسف ان الصحافيين يدفعون الضريبة للمرة الثانية حيث تعرض عدد لا يستهان به من الإعلاميين إلى الضرب والشتيمة من عناصر القوة التنفيذية المذعورين الموتورين بشكل غير مفهوم وغير مبرر على الإطلاق.

بمعزل عن الفتوى التي أجازها الأزهر بجواز الصلاة في الشوارع والميادين العامة لابد من تسجيل الإعجاب بالحلة الإيمانية التي هبطت على قلوب ووجدان عناصر وأنصار فتح في «غزة هاشم»، وهذا دليل صحة وعافية خصوصا بعد حملة الاقالات التي نفذها الرئيس الفلسطيني بحق عدد من المسؤولين الأمنيين بعد سيطرة حماس على القطاع.

كما تدل على ان هؤلاء الرجال اجروا عملية تقييم موضوعية لفترة سيطرتهم وإدارتهم لفترة التي شهدت الكثير من التجاوزات التي ضج منها الناس أو اسقط فتح في غزة بهذه السهولة التي فاجأت الفتحاويين أنفسهم، بعد ان كانوا واثقين من نفوذهم ومن سيطرتهم على كل مناطق القطاع وانهم أصحاب الكلمة الفصل في تقدير المصير.

لا نعرف المعطيات والدوافع السياسية التي تكونت لدى حماس لاختيار مبدأ القمع، ولكن كان ينبغي على القوة التنفيذية والحكومة المقالة في غزة ان تسمح لعناصر فتح ان يمارسوا شعائر صلاة الجمعة في الميادين والشوارع والحدائق العامة، وكان من واجبها ان تؤمن لهؤلاء المعتصمين الحماية الأمنية، وتسهيل أمورهم وتوفير كل شروط السلامة والهدوء، لأن الحرية الدينية هي حق مكتسب تكفله كل دساتير وقوانين العالم.

والمثير للاهتمام في هذه المعادلة العجيبة الغريبة هو لجوء حماس ذات الطابع الديني والقرآني لقمع الذاهبين للصلاة وإحياء شعائر الدين الحنيف حتى وان كانت دعوة استعراضية وشكلية فالمطلوب من الجهة الرسمية (القوة التنفيذية) ان توفر لها كل شروط الأمان والهدوء والاستقرار واللجوء للقمع والتفريق بالقوة هو في حالة واحدة عندما يتحول هؤلاء المصلين إلى حالة شغب تؤثر على حريات الآخرين.

جميل جداً مشهد تبادل الأدوار القائم حالياً في «غزة هاشم»، حيث تتحول إلى طرف معارض ويعتمد وسائل مشروعة للتعبير عن برنامجه السياسي وحماس تتحول إلى سلطة قامعة للمصلين والمتظاهرين وهذا يؤكد النظرية القائلة لو دامت لغيرك ما آلت إليك وكما قال احد الحكماء: الدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإن كان معك لا تبطر وان كان عليك فلا تضجر، لهذا فإن على الطرفين المتخاصمين والمتنافسين ان يتخذا العبر من التاريخ وان يضعا المصلحة العليا للشعب الفلسطيني في مقدمة الأولويات.