حتى أشهر قليلة ماضية كان الاعتقاد الراسخ عند السواد الأعظم من الناس والرأي العام العربي والعالمي وحتى العراقي يعتقد أن القوات البريطانية الموجودة في مدينة البصرة ثاني المدن العراقية بعد بغداد هي في مهمة سياحية منذ أربعة أعوام، وأنها تنفذ مهمتها بهدوء وسلام دون أي منغصات وأن سكان البصرة ومحيطها يمتازون بالوداعة، وليسوا من دعاة العنف ويستطيعون تكييف أوضاعهم حتى مع الجيش المحتل.
لكن هذا الاعتقاد كان كاذباً وغير صحيح، فقد ثبت بما لا يرقى إليه الشك أن المدينة كانت تغلي كالمرجل، وأنها كانت تخوض مقاومة شرسة ومنظمة وبعيدة عن الأضواء والصخب السياسي، اعترف بها البريطانيون أنفسهم الذين أكدوا أن تسعين في المئة من العمليات العسكرية كانت تستهدفهم وأن نسبة العمليات الموجهة ضدهم في البصرة ومدن الجنوب العراقي كانت تفوق نسبة العمليات الموجهة ضد القوات الأميركية في بغداد وباقي المدن العراقية.
إذا كان أهل البصرة ومحيطها أناساً مسالمين وأكثريتهم ينتمون إلى ابن العلقمي كما صنفتهم الدعاية الإعلامية المغرضة في بداية الغزو فمن هم هؤلاء الذين يخوضون هذه المقاومة الباسلة التي استطاعت أن تخلخل الأرض تحت أقدام المحتلين وتفرض عليهم الانسحاب الفوري الذي لا خيار سواه من العراق الجريح!
وبالتأكيد ليست هذه العناصر التي تقوم بهذه المقاومة الشرسة هي مؤلفة من كائنات أتت من الفضاء الخارجي كما يحلو للبعض أن يستنتج عندما تلتبس عليه المواقف، أو ليست عناصر مستعارة أو مستأجرة من الخارج كما حاول ويحاول هذا البعض في السنوات الأخيرة تثبيت هذه الصورة المزيفة،
ولكن الأكيد أن هذه المقاومة هي من صنع أبناء مدينة البصرة ومن خيرة شبابها الذين رفضوا تهمة ابن العلقمي وزير الخليفة العباسي المستعصم الذي ساعد هولاكو على دخول جيشه بغداد وإحراقها برمتها، بشكل همجي ووحشي، وبينت بما لا يدع مجالاً للشك أن هنالك مقاومة حقيقية توجه ضرباتها بالاتجاه الصحيح.
الملفت أن القوات البريطانية التي انسحبت من المدينة وبقيت في مطار البصرة، تصر على الإسراع بالخروج النهائي من المنطقة التي دخلتها منذ أربعة سنوات بسلاسة وشاهدنا وسائل الإعلام تغطي هذا الانتشار الهادئ للجنود البريطانيين في ربوعها،
وداخل القصور الرئاسية الفاخرة، والرابضة على الضفتين للفرات الحزين باسترخاء يثير الغضب والسخرية، وقد بلغت بهم الثقة بالنفس حد أنهم حولوا أحد هذه القصور إلى موقع سياحي يرتاده الزوار الأجانب من صحافيين ومسؤولين ويلتقطون داخل أجنحته الراقية الصور التذكارية.
إن هذا الإصرار البريطاني على الانسحاب الفعلي الذي باشروه منذ أيام من البصرة يدل على أن حجم ضربات المقاومة الموجعة لم يعد يحتمل كما أن حجم الخسائر في صفوفهم كبير وأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في الحد منها، ويعبر عن ذلك التأزيم خير تعبير هو أن البريطانيين رفضوا كل الضغوط الأميركية بالبقاء في المدينة الحيوية التي تحتوي على النفط العراقي، وعلى المرافق الأساسية التي يتم من خلالها تصدير هذا النفط إلى العالم.
تقول القاعدة الشعبية المألوفة «إن للنصر آباء كثيرين وللهزيمة شخصاً واحداً»، ولهذا فإن الصخب الحاصل حالياً بين المسؤولين السياسيين والعسكريين في قوات التحالف يدل بلا شك على علامات الهزيمة الواضحة،
ولهذا سنشهد من الآن وصاعداً الكثير من السجالات وتبادل الاتهامات بين المسؤولين وعلى أرفع المستويات، لأن هذا الدم المراق والبريء لا يذهب هدراً وبلا حساب حقيقي، لأن عقاب القدر هو الأصعب وهو العقاب الحكيم الذي لا رادّ له.
لكن لنتذكر أن البصرة التي تحملّت في الماضي القريب وزر الحرب المجنونة بين العراق وإيران وكانت خط الجبهة الأمامي الذي دفع ضريبة هائلة، ها هي تخوض مقاومة نظيفة باسلة بلا ضجيج أو صخب إعلامي يشوه الصورة، وتفرض على المحتل أن يخرج منها خائباً ذليلاً. إنها واحدة من الدروس المشرفة التي قدمها العراق وشعب العراق للأمة بأسرها.