قبل أيام نقلت إلينا بعض المواقع الإلكترونية خبراً عن إقامة مسابقة فنية باسم «جائزة بليك للأعمال الفنية الدينية» والتي عُرضت أعمالها في كلية الفنون الوطنية في سيدني. وإلى الآن لا يبدو أن الخبر يتضمن شيئا يثير الاهتمام.
ولكن في الواقع أن هذه المسابقة التي تعتمد على الأعمال المستوحاة من الدين أثارت غضبا شديدا في الأوساط المسيحية الأسترالية على إثر ظهور عملين من بين خمسمئة عمل تقدمت للجائزة أساءا على نحو مباشر للدين المسيحي، وذلك من وجهة نظر عدد من الشخصيات التي عبّرت عن استيائها من إقامة حرية الرأي والتعبير على حساب المعتقدات الدينية.
من المهم أولا أن أذكر أن أحد هذين العملين اللذين أثارا جدلا واسعا في هذه المسابقة رفيعة المستوى يصور أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، في هيئة المسيح، أما العمل الثاني فهو يظهر السيدة مريم العذراء وقد كسا رأسها والجزء العلوي من جسمها البرقع الأزرق الذي ترتديه النساء في أفغانستان، والذي أصبح شائعا خلال فترة حكم طالبان.
ومن المهم ثانيا أن أذكّر بأن رسولنا الكريم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قد تعرض لإساءة من هذا النوع قبل عامين، أي في عام (2005م)، حين نشرت إحدى الصحف الدنماركية (يلاندس بوستن) رسوما تصوره على نحو لا يليق بشخصية لها مكانة خاصة في نفوس المسلمين الذين ينتشرون في مختلف أصقاع العالم.
وقد أثارت تلك الرسومات حساسيات شديدة بين المسلمين وغيرهم، وشهدت تلك الفترة ردود فعل غاضبة من قِبَل المسلمين، لكنها ـ على شدتها وانفعاليتها ـ لم تحل دون تكرار الإساءة ذاتها، في العام التالي، أي في عام (2006م)، وانتقالها من بلد إلى آخر، وقد ثارت ثائرة المسلمين مرة أخرى لما رأوه من استفزاز واضح لمشاعرهم.
وهذا لم يمنع أيضا من تكرار الأمر ذاته هذا العام، أي (2007م)، وذلك حين نشرت صحيفة (نيريكيس أليهندا) السويدية ـ تحت اسم حرية الرأي والتعبير أيضا ـ رسما يصور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع جسم كلب مصحوبا بمقالة حول حرية التعبير، وقد أثارت أيضا زوبعة من الغضب والاستياء في عدد من الدول الإسلامية، لكن يبدو أنها أخف وزنا من سابقتيها.
ولو نظرنا إلى طبيعة الموقفين، أقصد موقف الإساءة إلى الرسول الكريم الذي يمثل الشخصية الدينية المركزية في الثقافة الإسلامية، وموقف الإساءة إلى السيد المسيح والسيدة مريم العذراء وهما شخصيتان مركزيتان أيضا عند الشعوب المسيحية، سنجد أنهما يتشابهان في جانب ويختلفان في جوانب.
أما موضع التشابه فهو أن كليهما يتضمنان إساءة إلى شخصيات ذات مواضع حساسة عند جماعة من الناس، أيّا كان عددهم، وهذا في حد ذاته فيه تجاوز للفهم الطبيعي والمنطقي لفكرة حرية الرأي والتعبير، فالحرية بجميع أنواعها تقف عند حدود التعدي على حرية الآخرين، أو مشاعرهم، أو أي شيء ينتج عنه أذى أو إساءة لهم.
وبهذا المفهوم للحرية يستطيع الناس ـ المختلفون بطبيعتهم حتى على مستوى أفراد الأسرة الواحدة ـ أن يتعايشوا، وأن يرافق بعضهم بعضا في رحلة الحياة. أما بعيدا عن هذا الفهم فإن الجميع سيكون مسكونا دائما باحتمالية تعرضه لإساءة من أي نوع من قِبَل الآخرين.
أما مواضع الاختلاف فتكمن أولا في أن الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم كانت عملا شخصيا خالصا، قام به أحد رسامي الكاريكاتور الدانماركيين أولا، ثم توالت بعد ذلك على نحو شبه شخصي، أما الرسوم المسيئة للسيد المسيح والسيدة مريم العذراء فقد كانت من خلال تنظيم مسابقة خاصة بالأعمال الفنية المستوحاة من الدين.
ويشرف عليها أشخاص ذوو اتصال مباشر بالدين، مثل القس رود باتندن، وهو المتحدث الرسمي باسم الجائزة، وقد دافع عن اختيار الأعمال التي سببت جدلا هذا العام بقوله إن «الهدف من الجائزة هو تشجيع النقاش حول الجانب الروحي في المجتمع، وأن ذلك كان هدف كل الفنانين»،.
وهذا يوضح فرقا رئيسيا بين الحالتين، وهو اختلاف الهدف في كل منهما، فالهدف في الموقف الأول الخاص برسولنا الكريم هو التشويه، وإثارة مشاعر ما يقارب المليار مسلم، في حين أن الهدف في الموقف الثاني هو إثارة النقاش حول الجوانب الروحية في المجتمع، واستفزازه للتفكير في هذه الأمور.
وتوجد نقطة خلاف أخرى بين الموقفين، وهي أن الرسوم الدانماركية جاءت من أطراف لا علاقة لها بالدين الإسلامي، وفي بلد لا يمثل الإسلام ديانته الرئيسية، في حين أن الرسوم الخاصة بجائزة بليك جاءت في دولة تمثل المسيحية الديانة الرئيسية فيها، وإن لم تُذكر ديانة من قاموا بتنفيذ العملين المثيريْن للجدل، إلا أنه من غير المستبعَد أن يكونا مسيحيين في دولة يبلغ عدد سكانها عشرين مليونا، معظمهم يدينون بالمسيحية.
والأهم من كل هذا هو أن الإساءة إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمسّ المسلمين وحدهم، لأنه كما ذكرت سابقا شخصية مركزية في الثقافة الإسلامية فحسب.
ولكن الإساءة إلى السيد المسيح والسيدة مريم العذراء تمس المسيحيين على نحو مباشر، وتمسّنا نحن المسلمين الذين نؤمن بالسيد المسيح كرسول من رب العالمين أيضا، كما أن للسيدة مريم العذراء مكانة خاصة أيضا في نفوسنا، وأي إساءة لهما تعدّ بشكل أو بآخر إساءة لشخصيات مهمة في ثقافتنا الإسلامية. وهذا يعني أن أوجه الاختلاف بين الإساءتين تختلف حتى إن اتفقت في الفكرة العامة وهي حدوث الإساءة لشخصيات دينية.
ولكن إذا فكرنا في ردود الفعل على الإساءتين سنجد تباينا كبيرا بينهما، فالمسلمون ـ خصوصا في المرة الأولى لحدوث الإساءة من قِبَل الرسام الدنماركي ـ ثاروا وهاجوا وقاموا بمظاهرات عدة.
وأحرقوا العلم الدنماركي في أكثر من مدينة عربية وإسلامية، ووصلوا حد التهجم على السفارات الدنماركية وتخريبها ونهبها، مع تهديد الرسام نفسه بالقتل في أكثر من سياق. أما ردود فعل المسيحيين على الإساءة الموجهة لرموزهم الدينية فقد اتّسمت بالتعقل والحلم، إذ لم تتجاوز في معظمها التعبير ـ لفظيا ـ عن الاستياء من فن لا يحترم الدين.
وكان من ضمن ذلك ما قاله رئيس الوزراء الأسترالي لصحيفة ديلي تليغراف معبرا فيه عن استيائه من اختيار مثل هذه الأعمال الفنية للجائزة، مبينا أنها تعد إهانة غير مبررة للمعتقدات الدينية لكثير من الأستراليين، وهو رَفض تكرر على لسان شخصيات عدة تحتل مناصب مختلفة في أستراليا.
والملاحظ أنهم في ردود فعلهم كانوا يبدون تفهمهم لفكرة الحرية الفنية، ولكنهم مع هذا رفضوا هذه الأعمال التي تجاوزت كل الحدود في نظرهم، ومنحتهم إحساسا بالإهانة، وهو أمر عاشه المسلمون وعانوا منه على مدى ثلاث سنوات متتالية،.
وكان الرد الذي يصلهم هو أن الدستور ـ في الدول التي نُشرت فيها تلك الرسومات ـ يكفل للناس حرية الرأي والتعبير. ومع أننا لا نستطيع أن نضع الغرب كلهم في سلة واحدة، لأن منهم من انتقد الرسومات المسيئة للرسول الكريم، إلا أن الأمر يكشف أحيانا عن قبول الإنسان فكرة الإساءة وتبريرها إذا كانت لا تمسّه، ولكنها تصبح مرفوضة تماما حين تتعلق به.
وقد قالت المتحدثة باسم جماعات الضغط المسيحية للصحافيين في أستراليا في تعليقها على هذه الجائزة إنه من المؤسف حقا أن يتصرف أشخاص فيما يتعلق بالمسيحية بحرية لا يمارسونها مع ديانات أخرى. إنهم يشعرون الآن بالإهانة، ولكنهم مع هذا أبدوا قدرة أكبر على ضبط النفس، وتحكيم العقل، ونأوا بأنفسهم عن الانفعالية التي لا تؤتي ثمرا.
وإذا كنا نأخذ من الغرب أشياء كثيرة في مختلف الجوانب الحياتية، فلعل من المهم أن نأخذ منهم قدرتهم على التعامل مع هذه المواقف التي تثير الأعصاب بتروٍّ لا يخلو من حكمة، فقد تكون طبيعة رد الفعل مفتاحا لوقف سلسلة الإساءات الموجهة لرسولنا ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ.
ومن المهم أن تستغل الجماعات التي تتبنى فكرة الحوار بين الثقافات والأديان المختلفة هذه المواقف، وأن تعمل على إقرار قانون جديد للحرية، يضع لها خطا أحمر تقف عنده، ولا تتجاوزه، وذلك حين تمسّ معتقدات الآخرين، وتستفز مشاعرهم.
جامعة الامارات